جسر – صحافة
(عبد الناصر العايد)
يمكننا قراءة قرار الرئيس الروسي بشن الحرب في أوكرانيا، من إحدى الزوايا، كمحاولة لاستغلال تركيز الولايات المتحدة وانشغالها بمقارعة الصعود الخطير للقدرات العسكرية الصينية من جهة، وضعف أوروبا عسكرياً وعدم رغبتها بالحرب من جهة ثانية. لكن يبدو أن الزعيم الروسي الذي يتقن المجازفات المحسوبة، لم يكن عقلانياً بما يكفي حين اتخذ هذا القرار الانتهازي، وأن عمله هذا سيكون نقطة تحول تعكس اتجاه مساره المتصاعد طوال أكثر من عقدين. وسيكون من الصعب عليه، مع استيقاظ أوروبا عسكرياً، أن يستكمل حلم الإمبراطورية الروسية، أو يستعيد حلف وارسو. ومع كل ما يبدو عليه المشهد من وضوح لهذه الناحية، إلا أننا يجب أن ننتظر تطورات المواجهة الصامتة بين العملاقين العالميين، الولايات المتحدة والصين، في المحيطين الهندي والهادئ، فالأزمة الأوكرانية ليست سوى العرض في هذه الدراما الكونية، أما المواجهة ففي خليج تايوان.
منذ عهد ترامب، تنبهت مواقع صنع القرار الأميركي إلى الصعود الكبير للتهديد الصيني، خصوصاً في المجال العسكري، وعدّته خطراً يتجاوز الروسي بمراحل، لا سيما أنه يتزامن مع زحف اقتصادي على “الحزام والطريق”، وبوجود زعيم ذي نزعة عدوانية وتوسعية على رأس السلطة في بكين. وعليه، بنَت واشنطن استراتيجية الدفاع الوطني الأميركي للسنوات الأربع المقبلة على أساس مفهوم “الردع المتكامل”، بدلاً من مفهوم “المنافسة الاستراتيجية” الذي كان متبعاً خلال العقدين الأخيرين. ويعني المفهوم الجديد، إجرائياً، تعزيز الردع النووي والتقليدي فائق التطور، للَجم الطموحات الصينية، وتحرير الموارد لصالح جهود التحديث الملحّة للتكنولوجيات العالية، والتأكد من قدرة الجيش الأميركي على هزيمة منافسيه، وتجنب هدر الموارد على الأنشطة اليومية والمصاريف التشغيلية للجيش الأميركي المنتشر في مناطق ليست ذات أهمية اليوم بالنسبة لأميركا، مثل أفغانستان والشرق الأوسط.
لكن مواجهة الصين بحزم تقتضي أيضاً تحرير واشنطن من مسؤولية أمن أوروبا، التي ضغط عليها ترامب لتأخذ دورا أكبر في الناتو، ووصل به الأمر إلى التهديد بسحب المظلة الأمنية، وكان يومئ إلى ألمانيا تحديداً بتصريحاته الفجة. لكن برلين تلكأت في الاستجابة، وقالت إنها ستخصص 2 في المئة من ميزانيتها للدفاع، لكن ليس قبل العام 2031.
إدارة بايدن ذهبت أبعد من ذلك، وانتقت بريطانيا التي تملك أقوى جيش في أوروبا، لترافقها في المواجهة مع الصين، وأبرمتا معاً اتفاقية أمنية مع أستراليا في المحيطين الهندي والهادئ. وقوضت، بكل راحة ضمير، صفقة عسكرية بين فرنسا وأستراليا، كأنما تقول لباريس إن مهمتها مع دول الناتو الأخرى، في مواجهة العدو الآخر، روسيا.
وفي خضم الأزمة الحالية ذاتها، طار وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، إلى ملبورن في أستراليا، لحضور اجتماع مع نظرائه من المحور الأمني الرباعي الذي يضم أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة، ويهدف إلى إنشاء بيئة استراتيجية مع هؤلاء الحلفاء لمواجهة التهديد الصيني.
لقد كانت لحظة الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 شباط/فبراير الماضي، لحظة انتباه أوروبا من غفلتها الطويلة التي تسببت فيها عقود السلام ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي عبّر عنها بتكثيف شديد، وزير الدفاع الألماني، عندما أعلن بذعر أن بلاده “عارية عسكرياً”. الغزو أيضاً أيقظ الأوروبيين من حالة الاستغراق في عسل التقدم الاقتصادي والرفاه الاجتماعي، الذي لا يمكن ضمانه من دون القوة العسكرية، ولفت نظرهم إلى سبب الفشل أمام روسيا في غزواتها وحروبها السابقة، وهو افتقادهم للسلاح الذي يرغمه على تقديم تنازلات.
صحيح أن الموقف الفرنسي من وجود قوة دفاعية خاصة بها، معروف منذ أيام ديغول في الخمسينيات، وأن ماكرون حثّ أوروبا العام 2018 على تشكيل جيشها الخاص، محذراً من مخاطر “القوى السلطوية الصاعدة”. إلا أن موقف برلين المتراخي جعل نداءاته صرخة في وادٍ. لكن الأمور تغيرت كلياً الآن، ووضع المستشار الألماني مبلغ المئة مليار يورو في الصندوق العسكري، وهو مبلغ يفوق كل ما تنفقه روسيا على جيوشها في سنة واحدة. ومع قرار ألمانيا اقتطاع ما نسبته 2 في المئة من ميزانيتها للدفاع على نحو مستمر، واتخاذ إجراءات أخرى، مثل تحويل صفقة مخططة مسبقاً لشراء طائرات إف-18، إلى صفقة لشراء طائرات إف-35 الهجومية الفائقة، وتقديم أسلحة لأوكرانيا، فإننا نستطيع القول إن وزارة الدفاع الألمانية تحولت إلى وزارة حرب.
في خلال فترة وجيزة، ستصبح ألمانيا القوة العسكرية الأبرز في أوروبا، والحصن الأصلب في طريق موسكو، وسيتبع ذلك بالتأكيد اتخاذها مواقع أمامية في المناطق الساخنة، سواء في أوروبا الشرقية أو حتى الشرق الأوسط. بعبارة أخرى، ستلعب دوراً هجومياً في الصراعات الدولية لعقود مقبلة، وعلى رأسها الصراع مع روسيا، بعدما واظبت لعقود على اختيار مهمة “حفظ السلام” لقواتها المنتشرة على استحياء هنا وهناك.
لا يتسع المقام هنا لتعداد خسائر أخرى قد يتكبدها قيصر روسيا، مثل خسارة علاقاته الاقتصادية مع أوروبا وألمانيا على وجه التحديد، والتي توازي خطورة العقوبات الاقتصادية، أو تحالفه الناشئ مع تركيا، التي سيتوجب عليها خوض حروب الناتو، ولا الهند التي انخرطت مع واشنطن في التحالف الأميركي ضد الصين، لكنها تستمد معظم عتادها العسكري من روسيا.
لكننا يجب أن نحذر الاجتزاء. فالأحداث الخطيرة الحالية تجري في سياق أوسع، وكما أن واشنطن تولي كل اهتمامها للصين حالياً، فإن هذه الأخيرة ما زالت أيضاً تولي جلّ انتباهها للولايات المتحدة. لكن، في اللحظة التي يصبح فيها الصراع جدياً، ستزول الفواصل الكرتونية بين الحيزات التي تبدو متمايزة حتى هذه اللحظة، وسينشأ في الحال جسر اعتماد متبادل صينيّ روسيّ، وحينها لن نتحدث عن حرب تستحضر شبح ستالين فحسب، بل عن مواجهة غربية شاملة مع قطب عالمي جديد بوجهين عدوانيين، أحدهما للزعيم الصيني تشي والآخر لبوتين. وعلينا أن نتذكر أخيراً أن “نقطة التحول” التي يتحدث عنها الخبراء باستفاضة في كل مكان، إذا ما كانت هناك نقطة من هذا النوع، هي بالتعريف لحظة يشاهَد فيها الماضي والحاضر والمستقبل معاً.
المصدر: موقع المدن