عمر قدور
قبل يومين كان “عيد الجيش العربي السوري”، والجملة لوحدها تنضح بالمرارة بالنسبة لشريحة واسعة من السوريين، فثمة عيد للوحش الذي تولى قتل أحبة لهم وتدمير ممتلكاتهم وتهجيرهم. للوحش مناصرون أيضاً احتفلوا بعيده، ورغم أن احتفالاتهم مدبَّرة من سلطتهم فذلك لا يلغي واقع أنهم ناشدوا خلال سنوات وحشَهم كي يفعل ما فعله حقاً، بل ليفعل أكثر مما فعل أو ليرتكب من الوحشية ما يفوق طاقته.
يُلقّب المنتسبون إليه بـ”حماة الديار”، اللقب الذي يكاد ينافس التسمية الرسمية، ومن الطريف أن أرشيف الثورة السورية يحتفظ بتسميةٍ هي “جمعة حماة الديار”، وهي الجمعة الأخيرة في أيار2011 عندما كان يوم الجمعة موعداً للمظاهرات. لم تشفع التسمية للثائرين، سواء أطلقوها على سبيل “الرشوة” أو أملاً بأن يكون الجيش مثل نظيريه التونسي والمصري آنذاك، فلا ينقض عليهم بصواريخه ودباباته وطيرانه، من دون نسيان ذلك الاختراع البدائي الهمجي الذي لم يكن يعرف السوريون شيئاً عنه، أي البراميل المتفجرة التي ستصبح علامة مميزة لحماة الديار وللسلطة التي لا يحمون غيرها في الواقع.
حماة الديار عليكم سلام؛ هكذا يُستهل النشيد الوطني السوري منذ عام1938 بتحية الجيش أيام كان تحت إدارة الانتداب الفرنسي، ولم يتغير النشيد سوى لفترة قصيرة أثناء الوحدة مع مصر. ومن المرجح أن تكون سوريا من بين بلدان قليلة جداً يلتصق نشيدها الوطني بالجيش، ولا يتغير مع قيام الجيش بخمسة انقلابات على تجربة الاستقلال الديموقراطية الوليدة، قبل أن ينقض عليها نهائياً عسكريو البعث بانقلاب آذار1963، ولا يخلو من مغزى أن يُبقي انقلابيو البعث ثم صاحب الانقلاب الأخير حافظ الأسد على النشيد الذي يمتدح العسكر رغم معاداتهم وقضائهم على كافة الرموز السابقة للدولة ومنها العلم الوطني.
ولئن لم يكن لعموم السوريين قرار في الإبقاء على النشيد الوطني فإن ذلك لم يكن بعيداً عن وعيهم السائد “غير النقدي” تجاه المؤسسة العسكرية، والنقد المتداول سراً ضمن شريحة منهم كان يقتصر من البعض عما يراه هيمنة طائفية على الجيش، بينما ينتقد البعض الآخر مظاهر الفساد التي طالت المؤسسة العسكرية بأكملها. فكرة الجيش كما هو، وكما تجسدت طوال عقود، لم تخضع في حد ذاتها للنقد، فالمشكلة في الإدارة أو في السلطة السياسية العليا مع التسليم بالمبدأ كأنه بديهي، وهذا سنراه بعد عام2011 لدى المعارضة التي تطرح إعادة هيكلة الجيش وحصر دوره بالدفاع عن البلاد “بلا تدخل في السياسة”، من دون التجرؤ على أسئلة من قبيل: ما حاجة سوريا فعلاً إلى جيش فاق تعداده قبل انطلاق الثورة ثلاثمائة ألف؟
“وكالة الأنباء السورية” سانا تجيب على السؤال السابق بعنوان لمناسبة عيد الجيش هو “الجيش العربي السوري.. تاريخ حافل بالبطولات”، ثم يستعرض المقال تلك البطولات منذ عام 1948 “احتلال فلسطين” وصولاً إلى عام 2006 وهو تاريخ الحرب الإسرائيلية على لبنان التي لم تُذكر فيها حينئذ مشاركة للجيش العربي السوري! أما درة تاج انتصارات هذا الجيش في حرب تشرين1973 فانتهت مع الأيام الأولى للحرب ثم حرب الاستنزاف إلى احتلال إسرائيل مساحة إضافية قدرها 510 كيلومتر مربع، ستعيد منها نحو 60 كيلومتر مربع فقط متضمنة مدينة القنيطرة وقرية الرفيد ضمن إطار اتفاقية فك الاشتباك المعمول بها حتى الآن. هذا بالطبع إذا لم نأخذ في الحسبان الانتصارات الأخيرة منذ عام2011، والتي احتاج فيها هذا الجيش إلى مساندة الشبيحة والمخابرات وحزب الله وحوالى أربعين ميليشيا شيعية بإشراف مباشر من الحرس الثوري الإيراني وسلاح الجو الروسي.
والحديث عن الجيش يعتريه نقص فادح ما لم يتوقف عند أثر حافظ الأسد منذ تسلّمَ وزارة الدفاع عام1966، فهو أول من أدخل صراحة فكرة تغيير وظيفة الجيش لتصبح حماية السلطة، ومع أن فكرة تأسيس الفرقة 569 تُنسب إلى محمد عمران “بهدف وحيد هو حماية المطارات” إلا أن حافظ الأسد وبقيادة من شقيقه رفعت لتلك الفرقة التي ستُشتهر باسم سرايا الدفاع حوّل الفرقة إلى وريث “حكومي” لميليشيا الحرس القومي الحزبية، وبدءاً بها نشأت ميليشيات أخرى مثل الوحدات الخاصة وسرايا الصراع والفرقة الثالثة ثم الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة.
في واحد من أوجه إنشاء ميليشيات أفضل تدريباً وتسليحاً نستطيع العثور على يمكن تسميته بحلم إنشاء إنكشارية أسدية، وعلى صعيد الشكل كانت شاحنات تابعة لسرايا الدفاع تجوب الأرياف وتغري المراهقين خاصة بمكبرات الصوت للالتحاق بها، ومن يلبي النداء يركب في صندوق الشاحنة فوراً بصرف النظر عن عدم وصوله إلى السن القانوني. الهدف هو إنشاء ميليشيات تدين بالولاء والطاعة المطلقين، مع انفصال أفرادها أقصى ما يمكن عن التأثيرات الاجتماعية والعائلية المعتادة. حافظُ الأسد اليقِظ لإنكشاريي أخيه وأمثالهم من إنكشاريي علي حيدر وشفيق فياض.. سيُسارع إلى حل تلك الإنكشاريات لصالح ابنيه باسل “ثم بشار” وماهر اللذين سيسيطران على الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة كوريثين للتجربة السابقة. إلا أن اندلاع الثورة سيجبرهما على استعادة تجربة الأب لتشيع تسميات تدل على تكاثر الميليشيات التي لها قائد بارز تحمل اسمه مثل قوات النمر التي راحت تتفرع بتسميات من نوع “فوج الهواشم” أو “فوج الطرماح”… أو قوات “صقور الصحراء” وهي ميليشيا مختلطة بين القطاعين العام والخاص! وغير ذلك كثير من التسميات التي توارى بعضها بإعادة هيكلة يتولاها ضباط روس.
قبل الثورة كانت الفكرة السائدة هي اعتماد النظام على أجهزة المخابرات، وعجز الأخيرة على التصدي للمظاهرات ثم الزج مبكراً بالجيش في مواجهة المتظاهرين أثبتا أن قوات الأسد وفي مقدمها ميليشيات النخبة هي ضمانة بقائه، رغم أن تعداد الأجهزة الأمنية كان يقدّر قبل الثورة بما يزيد عن مئتي ألف. الزج بالجيش في مواجهة المدنيين وانشقاق عشرات الآلاف عنه كان لهما أثر بارز في ظهور ما سُمّي عسكرة الثورة، وكما هو معلوم انقسم المعارضون بين متمسك بالسلمية ومناصر للعسكرة، وبدا ذلك في بعض الأحيان كأنه اتباع لفرقة دينية أكثر مما هو نقاش في شأن عام يُفترض أنه مشترك، ويُفترض به أن يكون نقدياً وواقعياً في آن.
تنضح التسميات التي ارتبطت بعسكرة الثورة بمآلاتها، من البدء بتسمية الجيش الحر التي كانت أشبه بالتمني وصولاً إلى تسميات لفصائل أو فرق على منوال “الحمزات” و”العمشات”، ولم تكن التسميات من قبيل جيش الإسلام “مثلاً” أحسن حالاً فالتسمية الأيديولوجية لم تحجب سيطرة آل علوش وشيوع تسمية “العلاليش” للإشارة إلى منتسبيه. كأن عسكرة الثورة اقتفت من يُفترض أنها أتت للثورة عليه بأسديين صغار لا يُستبعد أن يسرّهم هذا التشبيه، أما هدف العسكرة الأول المعلن المتمثل بحماية الثائرين فقد طوي نهائياً، ولم يندر أن تكون علاقة الفصائل بمحكوميها كعلاقة حماة الديار بأهل الديار تنكيلاً أو تعفيشاً.
ثمة فصل تعسفي في الحديث عن عسكرة الثورة، لا بسبب إنكار مبرراتها كما يحدث في الكثير من الأحيان، وإنما أيضاً بسبب عدم وضعها ضمن سياق متواصل من العسكرة السورية التي لم تخضع للنقد يوماً. بل ثمة إقرار معلن أو ضمني لدى بعض المعارضين بأحقية امتلاك الأسد العنفَ لأنه “الدولة”، وهذا ما ينطوي عليه حديث متواتر عن ضرورة الحفاظ على مؤسسات الدولة السورية ويقصد بها “مؤسسة” الجيش تحديداً. في الواقع لدينا تجربة حديثة ووحيدة من العسكرة، من حافظ الأسد إلى أبي عمشة، ونبذ جزء منها من دون نبذ الآخر لا يعني سوى الاحتفاظ بجزء للاستقواء به على سوريين آخرين، وفي الأصل لا وظيفة للعسكرة في سوريا سوى الحرب الداخلية، فلا لبنان أو الأردن سيهاجمانها ولا هذا الجيش أو سواه سيكون قوة ردع للتفوق الإسرائيلي أو التركي. لن يكون الأمن القومي السوري مهدداً، بل على العكس لن تكون الديار آمنة مرة أخرى إلا بالاكتفاء بجيش صغير رمزي وتسريح حماة الديار من كل الأطراف، من هواشم وطراميح وصقور صحراء وقوات غيث وفرق وفيالق بأرقام وعلاليش وحمزات وعمشات… إلخ.
المصدر: المدن