مصعب الحمّادي
من المتوقع بعد أن خبَتْ نيران الحرب التي شنّها نظام الأسد على السوريين أن تهدأ ثائرة النفوس في صفوف المعارضة، وأن تنخفض مشاعر الغضب، ويعلو صوت العقل والضمير في تقييم ما مضى، واستشراف ما سيأتي. غير أن الكثير من البضاعة السياسية والفكرية التي يطرحها أعداء نظام الأسد هذه الأيام ما تزال تجترّ مقولات قديمة، وتستخدم كليشيهات وتصنيفات بائسة لا تساعد في دمل الجراح، ولملمة خريطة الوطن.
على سبيل المثال، كتبَ أحد نشطاء الإخوان المسلمين مقالاً في موقع “تلفزيون سوريا” أمس، يتكلم فيه عن “العصبية العلوية،” لنظام الأسد داعياً إلى تفكيكها! وقد أتى الرجل باكتشافٍ جديد لم يسبقه إليه أحد فقال: “العصبية العلوية خطر حقيقي على سوريا والسوريين اليوم وفي المستقبل”!!
من جهةٍ ثانية، ما يزال كثيرٌ من النشطاء والكتّاب السياسيين المُعارضين عاجزين عن ذكر المناطق الكردية في سوريا دون أن يشتموا “عصابة PKK” المافيا العنصرية، وكيلة أمريكا وحارسة آبار النفط… إلخ.
إذا كان خطاب “العصبية العلوية” سينجح في سحب العلويين من حضن النظام، فإن خطاب “عصابة PKK” سينجح في جلب الأكراد إلى الخريطة السوريّة من جديد.
ماذا دهى عقول المعارضين؟ لماذا يفشلون في أخذ الدروس مع أنهم دفعوا أبهظ الأثمان؟ هل يعفينا الحديث عن العصبية العلوية من التعريج على الجماعات السنيّة التي دعمتها المعارضة؟ إذا كانت المعارضة تعتقد أن مواجهة الطائفية تكون بطائفيةٍ مضادّة فعلينا تذكيرها أن هذا “المشروع” فشل من زمان! إن القضية في سوريا هي قضية كرامة وحرّية وليست مسألة هويّات طائفية.
إن أسهل شيءٍ على الإنسان أن يزين الأمور بميزان الحق والباطل، الأبيض والأسود، نحن وهم، الأخيار والأشرار! لكن هذا المنطق لا يخدمنا أبداً نحن السوريين. ألا يكفينا أن كثيراً منا كفروا بالوطن؟ لماذا ما يزال يصرّ بعضنا على إقامة أنفسهم بمقام حارس البوابة فيُدخلون في سوريا من يشاؤون ويطردون منها من يشاؤون؟ أين ستنتهي بنا الخطابات المتوترة الحدّية البائسة؟ هل أتت هذه الخطابات بأي خير طيلة عشر سنين؟ لماذا نكررها إذاً؟
قرأت قبل مدّة مقالاً يروّج لطرحٍ مقيت ويدّعي وجود “حلف أقليات” في سوريا لمواجهة الغالبية السنيّة. والغريب أن كاتب المقال هو صاحب أهم وأقدم قناة تلفزيونية معارضة في سوريا!
لا أرى ما الفائدة من أن نقول بعد عشر سنين إن الدروز متقوقعون، والمسيحيين صامتون، والعلويين متواطئون، والأكراد ضالّون، والمؤيدين مُذنبون، وتجّار دمشق وحلب انتهازيّون..إلخ.
يبدو من السهل قول ذلك! أليس كذلك؟ بل ومن المغري أيضاً! لكن هل ينقذ سوريا هكذا خطاب؟
تعوّدنا في سبيل الصالح العام أن نصفح ونتسامح، ونتنازل ونتجاوز إذا كان ذلك سيعود بالنفع على بلادنا.
لا أسهل على الكاتب أو الناشط أو السياسي المعارض من أن يجترّ خطاباتٍ شعبوية قديمة ممجوجة مُستسهَلة، فذلك يجعل له معجبين كثر في وَسطه الذي يتحرّك فيه، لكن هل سيساهم ذلك في نجاحه بالتواصل مع باقي السوريين الذين ضربت بينه وبينهم الحرب والدول والمصالح؟ هل سيخدم ذلك مجهودات الحوار والوصول لشرائح السوريين التي يمنعه عنها نظام الأسد والدول اللاعبة على أرضنا؟
عندما نتمنى وضع نهايةٍ للحرب وتحقيق العدالة والمصالحة الأهلية مع بعضنا البعض، علينا أن نتذكر أن هناك إرهاصاتٍ يجب أن تسبق ذلك، وهذه الإرهاصات لا بد أن تأتي على شكل التقاءات وطنية صادقة مع المختلفين عنّا. نعم! علينا التعامل مع الاختلاف حتى نخلق التوافق.
أما الإصرار على التخندق وراء تصنيفات ومقدّمات تفوح منها شُبهات التعصب الطائفي والعرقي فإن ذلك لن يساعدنا على استعادة سوريا، بل سيجعل سوريا بعيدةً أكثر عن متناولنا، وقد نبحث يوماً عنها فلا نجدها! وعندها لن يلعن التاريخ نظام الأسد فحسب، بل سيلعننا نحن أيضاً.