جليلة الترك
من خاركيف وتشيرنيهيف وبوتشا شمالاً، إلى ماريوبول وخيرسون وميكولايف جنوباً، لا تختلف جرائم الحرب التي يرتكبها بوتين في أوكرانيا، عن تلك التي ارتكبها في سوريا، من درعا وريف دمشق جنوباً إلى حلب وإدلب شمالاً. قصف المشافي والمدارس والمساجد والمرافق الخدمية، إبادة المدنيين وتهجيرهم ونهب بيوتهم وأرزاقهم (التعفيش) وتدمير البنية التحتية، هذا في الجانب المادي. وفي الجانب المعنوي إرهاب الشعوب، وزيادة كلفة التحرر والتغيير كثيراً عليها، وذلك من أجل قتل الأمل لديها ودفن أحلامها في الحرية والكرامة ودفعها إلى اليأس والخنوع.
غياب وتغييب الحديث عن الجانب الأخير في وسائل الإعلام والتغطية الإخبارية وكذلك البرامج الحوارية، عند تناول ما جرى ويجري في أوكرانيا وقبلها في سوريا، مؤسف جداً. ولعلّ ذلك يكشف الغطاء عن أزمة عميقة في الفكر والوجدان والأخلاق، وذلك ليس على الصعيد الإقليمي فقط، وإنما على الصعيد الدولي أيضاً. معركة بوتين اليوم في أوكرانيا وقبلها في سوريا، ليست ولا ينبغي أن تكون معركة الشعبين السوري والأوكراني وحدهما، ضد سايكوباتي متوحش من طراز دموي بشع جداً، بل إنها المعركة الأبدية الخالدة، حيث تقف الحقوق والحريات والكرامة الإنسانية، نداً عنيداً بوجه الذل والخنوع والاستعباد. معركة الإنسانية ضد الشيطانية، معركة الحرية والديمقراطية في وجه الطغيان واستعباد الشعوب.
وفي حين أن أهداف بوتين غير المعلنة في سوريا وأوكرانيا تكمن في دعم وترسيخ الديكتاتورية والطغيان وحكم الشعوب بالحديد والنار، بوجه كرامة الشعوب وحريتها وديمقراطيتها. يغلّف هذا المجرم المغرور حروبه العبثية وخطاباته المليئة بالكذب والخداع، تارة بغلاف محاربة الإرهاب كما في سوريا وطورا بغلاف محاربة النازية كما في أوكرانيا. تخيلوا، أن بوتين يتحدث عن الإرهاب والنازية، إنها من سخريات القدر، ومساوئ الجهل عند المتلقي المتقبل لذلك الاستغباء الفج. إن حديث بوتين عن محاربة الإرهاب والنازية، هو كقول إبليس عن فعل الخير والصلاح.
للأسف، هذه المقاربات في زمن التيك توك، والمجتمعات التي أصبحت استهلاكية إلى درجة المرض، تغيب أو تُغيّب عن وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، من أجل مصالح ضيّقة وفكر انتهازي، لا ينظر في أي شيء إلا من خلال مصلحته والمكاسب التي يمكن أن يحققها، سلوك أقل ما يقال عنه إنه غير أخلاقي وغير إنساني. عند اشتعال كل أزمة أو حرب على الساحة الإقليمية والدولية، يذهب بعض المحللين -ضمن ظروف معينة- للحديث عن صراع المصالح والاقتصاد والنفوذ، ويشطح البعض الآخر للحديث عن المؤامرات الهلامية، التي لا وجود لها إلا في مخيلاتهم. ويبقى الحديث محصور لأن الهدف من ذلك هو البروباغندا وظواهر الأمور وقشورها، وهذا غير صحيح ولا صحي حيث يجب التعمّق قليلاً للبحث في الكُنْه والجوهر من خلال تناول صراع الفكر والثقافة والجوانب المعنوية.
يؤرق مضاجع الطغاة في أي مكان، وجود شعب قرر أن يطوي صفحة العبودية والذل، وأن يعيش حرّا كريما، يختار حكامه بنفسه ويراقبهم ويحاسبهم ويستبدلهم عندما يفشلون، وأن يعامل الشخص المسؤول على أنه موظف مهمته هي خدمة الشعب، ولا يعامله مثل الإله يأمر فيُطاع ويتكلم فلا يُرد له كلمة. هذا النموذج يرتعب منه الطغاة ويستشعرون خطورة أن تتسلسل تلك الأفكار إلى شعوبهم، فيطمحون إلى استعادة إنسانيتهم، وإن كان ذلك على بعد آلاف الكيلومترات منه كما سوريا في حالة بوتين، التي يناضل الشعب فيها من أجل حريته وكرامته، فكيف بالشعب الجار الذي تربطه مع الشعب الروسي الكثير من الأواصر الاجتماعية والتاريخية. وهذا ليس فكر الجزار القاصر بوتين، بل هو فكر عتاة الطغاة من أساتذته وملهميه، حيث يقول جوزيف ستالين الذي قتل على يديه ملايين الأبرياء والذي يسعى بوتين إلى وراثته : “إن الأفكار أقوى من المدافع، نحن لا نسمح لأعدائنا امتلاك مسدسات وبنادق، فلماذا نترك لديهم الأفكار”.
معركة الأحرار ضد بوتين وأمثاله من الطغاة في العالم، ومن ضمنه في عالمنا العربي أيضاً، هي معركة الحق ضد الباطل، ولذلك يجب أن لا يغيب عنها الحديث في الجانب الفكري والتوعوي في أي لحظة من اللحظات.