عقيل حسين:
العديد من الأصدقاء العراقيين واللبنانيين الذين كانوا يتحدثون بأسى عن سوريا وما حل بها هم اليوم من أشد المتحمسين للثورة التي تنطلق في البلدين الشقيقين، وفي باريس يلتقي هؤلاء مع عشرات من مواطنيهم المهجرين والمغتربين أسبوعياً في مظاهرات مساندة للانتفاضتين الشعبيتين المندلعتين في بغداد والنجف وكربلاء وبيروت وطرابلس وصور وصيدا وغيرها من مدن العراق ولبنان، للمطالبة بالتغيير.
أتعمد غالباً سؤال هؤلاء عن السبب الذي يدفعهم للمشاركة في الثورة، على الرغم من المخاطر الكبيرة المترتبة على ذلك، بدليل ما حصل في ليبيا واليمن، وسوريا بطبيعة الحال، فيجيبون بالقول: لو كان لدينا في العراق (وكذلك لبنان) ما كان متوفراً في سوريا، على قلته، لما غادرنا بلدنا، فضلاً عن تأييد الثورة والمشاركة فيها.
والحق، أن من عرف لبنان والعراق خلال العقدين الماضيين، أو أتيحت له فرصة زيارتهما، سيدرك ما يقصده أشقاؤنا في مقارنتهم هذه، خاصة وأن أغلب هؤلاء، وتحديداً العراقيين منهم، عاشوا في سوريا حتى العام ٢٠١١.
فالبلدان الجاران يعانيان على صعيد البنية التحية والخدمات والوضع المعيشي وضعاً مأساوياً لا يمكن مقارنته حتى بما كان موجوداً في سوريا، وكل ما يميز هذين البلدين عن سوريا هو وجود ديمقراطية شكلية وهمية، أصبحت لشدة مخادعتها أكثر استفزازاً وإثارة لليأس والغضب من الحكم الديكتاتوري ذاته!
أتفهم رد الأشقاء، وأتذكر كذلك كيف كنا كسوريين نقول مع أشهر الثورة الأولى، وقد كانت ثورة يناير المصرية قد أطاحت بحسني مبارك للتو: إنه لو كان لدينا نصف ما في مصر من ديمقراطية لما ثرنا على النظام.. أتذكر ذلك الآن وأفهم أكثر من أي وقت مضى دلالات ودوافع القيام بمثل هذه المقارنات.
والواقع أنه مع هذه المقارنة أو من دونها، وسواء كان الوضع في أي
ما يصح على الفرد يصح على المجتمع، والفرد عندما يشبع حاجة ضرورية لديه يبدأ بالبحث عن إشباع الحاجة التي تحتل المرتبة التالية في سلم الأولويات.
من بلدان الربيع العربي أفضل من ذلك بقليل أو أسوأ من ذلك بقليل أيضاً، فإن الثورة ستكون حتمية في النهاية، وليست التفاصيل التي تصنع التمايز السلبي أو الإيجابي البسيط بين هذا القطر أو ذاك سوى هوامش على النص الأصلي، الذي لا بد في النهاية أن ينطبق على الجميع.
هذا النص يقرر أن ما يصح على الفرد يصح على المجتمع، والفرد عندما يشبع حاجة ضرورية لديه يبدأ بالبحث عن إشباع الحاجة التي تحتل المرتبة التالية في سلم الأولويات.
وبالتالي فإن القول بأن هذا الشعب لم يكن ليثور لو أن مستوى محدداً من العيش أو الحريات قد توفر له هو قول بلا سند علمي أو واقعي، فضلاً عن أن الثورات لا تندلع بسبب انخفاض المستوى الاقتصادي أو اشتداد القبضة الأمنية فقط، بقدر ما يفجرها انسداد الأفق وفقدان الأمل بالتغيير.
لقد ثار المصريون رغم أن نظام حسني مبارك كان يدير منظومة ديمقراطية شكلية ويوفر معظم السلع والاحتياجات الأساسية بأسعار رخيصة، وثار التونسيون رغم أن نظام زين العابدين بن علي كان يوفر الأمن والاستقرار، وثار السوريون رغم أن نظام الأسد كان يبني المشافي والمدارس ويعبد الطرقات، وثار الجزائريون والسودانيون والليبيون واليمنيون رغم كل ما كان متوفراً في هذه الدول من أساسيات العيش وإن كان بحدود متفاوتة، إلا أن يقين الشعوب بأن الأنظمة التي تحكمهم تقودهم في كل يوم إلى الأسوأ، وفقدان الأمل في أي إصلاح ممكن هو ما دفع هذه الشعوب للثورة، وهو ما دفع العراقيين واللبنانيين اليوم وسيدفع غيرهم من شعوب المنطقة غداً للانتفاضة أيضاً.
لقد اعتقد كثير من أنظمة الحكم العربية أن الشعوب ستتعظ بما حل بالبلدان التي سبقتها للانتفاضة، وأن المد الثوري سيتوقف عند حدود الدم وتحطمه جدران الويلات والمآسي بما يكفي للردع عن التفكير بالثورة، بينما غاب عن هؤلاء أن الشعوب، كالأفراد، لا تتعظ بتجارب الآخرين بقدر ما تتأثر بهذه التجارب وتنجرف في تيارها، والثورات هي من أكثر التجارب البشرية قابلية للامتداد والتأثير والشمولية.
كسوريين عشنا تسع سنوات دامية ومريرة باتت تفاصيلها معروفة للجميع، نعتقد أننا أكثر من يفهم اليوم ما الذي تعنيه الثورة من مخاطر، وبالتالي فنحن اليوم أكثر من يتملكه الرجاء بأن تجد الشعوب الشقيقة طريقاً أكثر سلاسة وسهولة نحو التغيير المنشود، لكننا في النهاية لا نستطيع تحديد أو حتى توقع خيارات هذه الشعوب، وإن كنا نتوقع، بحكم الاطلاع على التفاصيل وعلى طبيعة الأزمات والأنظمة الحاكمة، الطريق القادم الذي ستسلكه.
يقول كارل ماركس: “إن الفقر لا يؤدي إلى الثورة، بل وعي الانسان بالفقر هو ما يؤدي إلى الثورة”. والحقيقة أن وعي المجتمعات العربية اليوم بأسباب المشكلات التي تواجهها، والقوى التي تمنع حلها وتكرسها، وهذه القوى هي اليوم أنظمة الحكم المتخلفة أو الديكتاتورية أو الطائفية أو الفاسدة، هو ما يدفع الشعوب للثورة في النهاية، بغض النظر عن اختلاف طبيعة ومستويات المشكلات والأزمات التي تعاني منها المجتمعات العربية، التي أصبحت تعي أسباب مشكلاتها، وليس المشكلات فقط.