رانيا مصطفى
ناقش الصديق الكاتب حيان جابر في مقالته “الفيدرالية السورية والرفض الدولي.. نقاش مع رانيا مصطفى”، في “العربي الجديد” الخميس 22/7/2021، مقالتي “فيدرالية سورية مرفوضة دوليا”، المنشورة في الصحيفة نفسها السبت 17/7/2021، وانتقدها؛ لكن حجج جابر المساندة لرأيه، المناقض لفكرة مقالتي، تحتوي مغالطات كثيرة. سأنطلق من التدقيق الذي بدأ به حيان، أن هناك بعدين لمسألة الفدرلة، دولي وديموغرافي؛ تناولت مقالتي البعد الدولي، باعتبار أن الواقع السوري محكوم بالأجندات الدولية، لكن العامل الديموغرافي بالغ الأهمية، ومؤثر في الموقف الدولي نفسه، وقد بيّنت أن التغييرات الديمغرافية في سورية لم تكن طائفية إلا على نطاق محدود، ولولا دعم التحالف الغربي في قتال تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) لتنظيم قوات سوريا الديمقراطية (قسد) لما سيطر الأكراد على مناطق شرق الفرات، العربية بغالبيتها، وما زال العرب يشكلون الأغلبية القومية فيها. وأضيف إنه، تاريخياً، ليس في سورية زعامات طائفية، يمكن أن تقتتل على غرار الحرب الأهلية في لبنان، بل كان النظام طرفاً في الحرب السورية، بوصفه حاكماً وشمولياً، وليس بوصفه يمثل طائفة واحدة أو تجمّعاً للأقليات، كما يستسهل بعضهم توصيفه، فكان يحرّك تارّة مليشياته الطائفية، وتارة أخرى فلسطينية، وثالثة من حلفائه السابقين من حزب الاتحاد الديمقراطي (البايادي) شرق الفرات، ومرّة رابعة من العشائر، وفق ما يحتاج إليه الظرف، عدا عن مناصريه من الطبقة الوسطى ورجال الدين وغيرهما، وعن استعانته بإيران ومرتزقتها. بالتالي، التركيبة الديمغرافية في سورية لا تسمح بالغلو في تقسيمات طائفية وقومية قسرية، وقد خبرها الغرب على يد الاحتلال الفرنسي لسورية بداية القرن الماضي، كما أسلفت في نهاية مقالتي السابقة.
أسقط حيان جابر ما حصل في العراق، ومخطط احتلاله وتفكيكه، على الواقع السوري (ولو أن سرديته تحتاج إلى تدقيق، لكنها ليست محور النقاش هنا)، وهو ينطلق في تحليله الاستراتيجية الأميركية، من أن تلك الإمبريالية تتبنّى دوماً تعويذة “فرّق تسد” أي تجزيء الدول، لإضعافها وسهولة السيطرة عليها؛ أرادت الولايات المتحدة إضعاف العراق، من أجل إخضاعه للسياسات الليبرالية الجديدة، ونهب نفطه، عبر صيغة دستور بول بريمر، كان السبيل إلى ذلك بإسقاط نظام صدّام حسين، بالتدخل العسكري، وتدمير كلي لبنية الدولة والمجتمع، وبالتأكيد تشجيع تقسيمات طائفية وقومية وفرض نظام حكم ضبابي، هو أقرب إلى الفوضوي منه إلى الفيدرالي؛ وما زالت هناك انتقادات كثيرة داخل البيت الأبيض، وفي الوسط السياسي الأميركي، لقرار جورج بوش الابن احتلال العراق، وللكلفة الباهظة، المادية والبشرية، التي دفعتها الولايات المتحدة، وللجدوى من ذلك كله، بسبب عدم استقرار العراق، وسيطرة مليشيات إيران، وظهور تنظيم القاعدة، والدعم الأميركي لجماعات إسلامية معتدلة لمواجهته، وظهور حركات الاحتجاج، وكيفية إدارتها أميركياً، وظهور تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وتدخل التحالف الدولي لمحاربته. من الخطأ القول إن الولايات المتحدة قادرة على التحكّم كلياً بكل هذه الفوضى في العراق، بل هي أصبحت مرتبكة بإدارتها، خصوصا مع التوجه الأميركي، ومنذ عهد الرئيس أوباما، إلى التفرغ أكثر لتعزيز أساطيلها البحرية في الباسيفيك، ومواجهة الصين، وباتت تميل إلى الانسحاب التدريجي، والاعتماد أكثر على الحلفاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والذين وسعوا مهمتهم التدريبية في العراق قبل أشهر قليلة، لهذا الغرض.
لم تذهب الولايات المتحدة وحلفاؤها في العراق في مسألة التقسيم إلى أقصاها، فإقليم كردستان مثلاً، والذي حظي بنضالاتٍ طويلة منذ بداية القرن الماضي، ونال بعض الاستقلالية قبل التدخل الأميركي، لم يسمح له، دولياً، بالاستقلال، وفشل الاستفتاء الذي أجرته حكومة مسعود البرزاني في 2017، ورفضت نتيجة الاستفتاء من حكومة بغداد، ولم تبارك مساعي الاستقلال هذه أيه دولة إقليمية، عدا إسرائيل التي زار مسؤولون منها الإقليم، لدعم انفصاله، وأفشلته تركيا وإيران، بعد لقاء رئيس هيئة الأركان الإيرانية، محمد باقري، بالرئيس التركي أردوغان، لهذا الغرض.
الظرف في سورية مختلف كلياً، فقد حصلت ثورة شعبية، واتجهت الإرادات الدولية نحو وأدها، وإضعاف الدولة السورية وتفتيت المجتمع، حتى لا تقوم له قائمة؛ وكان ذلك بدعم النظام في قمع شعبه إلى أقصى حدّ، وهناك رضا أميركي على دور تدخل إيران، وما يشبه التكليف الأميركي لروسيا بتولي تلك المهمة، ومنذ بيان جنيف في 2012. وعلى ذلك إضعاف سورية والسيطرة عليها، جاء بدعم جثة النظام المنهك والمتهالك، أولاً.
صحيحٌ ما كتبه حيّان عن توافق روسي أميركي بشأن إضعاف حصة تركيا من سورية، والذي لحقه إضعاف المعارضة السياسية والعسكرية أيضاً؛ لكن الاستشهاد بعلاقة أنقرة بإقليم كردستان العراق لا يعني قبولها عناصر حزب العمال الكردستاني على حدودها. وفي الأصل هي تدعم المجلس الوطني الكردي، المقرّب من حكومة كردستان، والمطرود من شرق الفرات. الوقائع التي حصلت تختلف مع السردية التي قدّمها حيّان حول المطامح التركية في سورية؛ فبعد مجيء التحالف ودعمه “قوات سوريا الديمقراطية”، باتت كل السياسة التركية في سورية تستند إلى المخاوف من الخطر الكردي على حدودها، وبات هدفها السيطرة على كامل الحدود وبعمقٍ كاف، ومنع الاعتراف بإدارة ذاتية مستقلة يديرها عناصر الوحدات الكردية التابعة لحزب العمل الكردستاني. هذا دفع تركيا إلى الاعتذار من روسيا عن حادثة إسقاط الدفاعات الجوية التركية طائرة سوخوي 24 الروسية أواخر 2015، والدخول في حلف أستانة، والقبول بالمسار الروسي بشأن “خفض التصعيد” وتسليم المناطق واللجنة الدستورية، وذلك كله بمباركة أميركية.
دعمت روسيا الفيلق الخامس، وصارت ترفده بعناصر المصالحات، وذلك لتقليص التوغل الإيراني ضمن جيش النظام، وليس لإحداث فرقٍ تدعم تشكيل أقاليم مستقلة، حيث تنتقل قطع الفيلق الخامس في كل المناطق السورية، ولا تختصّ ببقعة جغرافية محدّدة. تريد روسيا أن يسيطر النظام على كل المناطق، وكما كان الأمر قبل 2011، وهذا محور الخلاف في مفاوضاتها مع “الإدراة الذاتية لشرق الفرات”، وسبب لفشل المصالحة في درعا، كما أسلفت في مقالي السابق.
أصبحنا نستخدم كلمة “فدرلة” مرادفة للتقسيم، والعكس يجب أن يكون هو الصحيح، أي أن تعني تجميع المقسّم؛ توقفت الحرب في سورية بشكلها الواسع، وهناك شبه تثبيت لخطوط التماسّ، وبذلك يكون المقسَّم هو ثلاث مناطق نفوذ، وهي ما يستحق النقاش بشأن مستقبلها، وليس إمكانية إحداث مناطق نفوذ جديدة. أفردت في مقالي السابق أسباب كل دولةٍ على حدة في رفض الفيدرالية في سورية، أي ليس هناك إجماع دولي حول ذلك، كما اعتقد حيان. بات رفض تلك الأطراف واضحاً في سياساتها على الأرض. ويستند تحليلي إلى الوقائع اليومية المتغيرة، وليس إلى “لغة الخطابة والتمنيات” وفق تعبير حيان؛ حيث سبق أن ناقشت مؤسسة راند الأميركية القريبة من دوائر القرار في البيت الأبيض، قبل سنوات، خيارات التقسيم، والفدرلة، والتحاصص الطائفي، والإبقاء على لامركزية محدودة. ومن الواضح أن الإدارة الأميركية تتهرّب من مأزق دعم الإدارة الذاتية التي يسيطر عليها الأكراد، وتدفع بهم نحو تركيا، للتوافق بصيغةٍ ما مع النظام، وأن الوجود الأميركي العسكري المحدود شرق الفرات هو لمنع النفط والغاز عن روسيا والنظام، ورقة ضغط، لتحقيق الشروط الأميركية، فيما الوجود العسكري الأميركي الأكبر هو في قاعدة التنف، أي خارج مناطق الإدارة الذاتية.