الحرائق
قبيل حصاد الموسم بأيام انتشرت ظاهرة الحرائق في الجزيرة السورية، والتهمت مساحات شاسعة من محاصيل الحبوب، محولة نسبة معتبرة منها إلى رماد. وعن طريق تحليل صور أقمار صناعية وفرتها مؤسسة Sentinel-hub التابعة للمفوضية الأوروبية، بلغت مساحة الأراضي المحروقة حتى 20 حزيران، في أرياف الرقة وديرالزور والحسكة نحو 558 كيلومتراً مربعاً 56 ألف هكتار، ما يعادل خمسة أضعاف مساحة محافظة دمشق البالغة 105 كيلومتر مربع. وتشكل ما نسبته نحو 6% من الحقول المزروعة بالقمح والشعير في تلك المنطقة.
وباستثناء اعلان خجول من “الإدارة الذاتية” عن إمكانية تعويض المتضررين، لم يحدث شيء، ولم يبادر أحد إلى معالجة آثار المشكلة.
أسعار متدنية
عند بدء الحصاد، بدا أن ثمة تنافساً بين “الإدارة الذاتية” والنظام على شراء المحصول، كنوع من التواطؤ بينهما. أعلنت “قسد” عن شراء القمح بسعر 140 ليرة للكيلو الواحد، فيما أعلن النظام عن 185 ليرة. والتفسير لذلك أن “الإدارة الذاتية” أرادت أن يستجر النظام حصة كافية من القمح، من خلال خفض السعر الذي تقدمه. وبالفعل تقاطرت أعداد كبيرة من الفلاحين لبيع قمحها للنظام، لكنها اصطدمت بعوائق البيروقراطية المفتعلة، التي فتحت الباب للفساد على مصراعيه، وتفجرت الكثير من الفضائح التي كشفت عن تورط أعلى قيادات النظام في الحسكة.
ووصل الامر إلى الاقتتال داخل مراكز تسليم الحبوب بين الجهات النافذة لتمرير الشاحنات العائدة لكل طرف. وتبين على سبيل المثال، أن محافظ الحسكة يحصل على 150 الف ليرة سورية عن كل شاحنة تتجاوز دورها. ويضاف ذلك إلى خسائر الفلاح، الذي اضطر إلى ذلك لتجنب ارتفاع كلفة الشحن، بسبب الانتظار. وتفجرت الازمة عندما احتجزت مليشيا “الدفاع الوطني” المحافظ في أحد مراكز توزيع الحبوب عند حضوره شخصياً للتدخل لصالح بعض التجار المحسوبين عليه.
الفساد
شهية حيتان الفساد في “الدولة” السورية لم تكن اقل شراهة للقمح من الأسماك المحلية الصغيرة، فقد اعلن فجأة المدير العام للمؤسسة السورية للحبوب في حكومة النظام يوسف قاسم، عن إغلاق الباب أمام فلاحي الحسكة لتصريف محصولهم بالسعر المعلن عنه، محملاً “قسد” مسؤولية ذلك. اليوسف ترك المجال أمام المزارعين لتسليم غلالهم إلى مراكز المؤسسة في محافظات بديلة؛ الرقة وحلب وحمص وحماة ودمشق، على أن تتكفل المؤسسة بدفع نفقات النقل وفق التسعيرة المعتمدة. وهو أمر غير ممكن بالنسبة للمزارع العادي، بسبب قلة الشاحنات وصعوبة تأمين الشحن بشكل انفرادي وحمايته ومتابعته.
السر وراء ذلك القرار، بحسب مصادر “المدن”، أن المؤسسة السورية للحبوب أبرمت عقداً بالتراضي مع المتعهد الخاص شركة “افريو أوف شور لبنان”، في 3 تموز 2019، ينص على أن تنقل الشركة خمسة آلاف طن من قمح العام 2019 في الأسبوع، من محافظات الحسكة والرقة وديرالزور إلى مراكز فرع المؤسسة في دمشق، بأجر قدره 28 ألف ليرة للطن الواحد.
أحد تجار حبوب محافظة الحسكة، قال لـ”المدن”، أن تجاراً يتبعون لرجل الأعمال المقرب من النظام حسام القاطرجي، وصلوا إلى الحسكة وبدأوا بشراء القمح بسعر 140 ليرة للكيلو الواحد، ليتم بيعه للنظام بالسعر المعلن 185 ليرة، أي بفارق 45 ألف ليرة للطن الواحد. أحد المزراعين قال لـ”المدن”: “لم يعد أمامنا من سبيل سوى بيع محصولنا لرجال القاطرجي بـ140 ليرة، نحن مثقلون بالديون، ولا نستطيع تحمل الانتظار أو التكاليف الإضافية، ونعرف أنه سيبيعها للنظام بسعر 185 ليرة ليجني الملايين من عرقنا وتعبنا”.
الإدارة الذاتية تستورد القمح؟
أغرب قرار على الاطلاق، كان إعلان “هيئة الاقتصاد والزراعة” التابعة لـ”الإدارة الذاتية” عن “ضعف” مخزونها من القمح المخصص للبذار والطحين للعام 2020، موضحة نيتها الاستيراد لسد النقص. وأعلنت أنها بصدد شراء أكثر من 700 ألف طن، من أجل تأمين الطحين والبذار لمنطقة الجزيرة وشمال شرقي سوريا، عموماً، وإنها تحتاج إلى 900 ألف طن من القمح، ولم تتسلم إلى الآن سوى 375 ألف طن. وقالت إنها ستستورد القمح سواء من الداخل السوري أو من الخارج.
والأمر يثير الدهشة بالفعل، فقد كان بمقدور “الادارة” توفير هذه الكمية ببساطة لو رفعت سعر الشراء لديها إلى السعر الذي قدمه النظام، وهو بكل الأحوال يقل كثيراً عن سعر السوق العالمي. وليس مفهوماً لماذا تلجأ “الادارة” إلى اضعاف الفلاح في مناطق سيطرتها على هذا النحو، وتركه فريسة للتجار، الذين سيشترون الغلال من الفلاحين ايضاً ويعيدون بيعه لـ”الإدارة” بسعر السوق العالمية.
لمصلحة من؟
رصدت حكومة النظام السوري 70 مليون دولار لشراء المحاصيل من الفلاحين، بينما خصصت “الإدارة الذاتية” نحو 200 مليون دولار. ولجأ الطرفان إلى الأسواق العالمية للشراء. النظام اشترى فعلياً بنحو 120 مليون دولار تمّ تمويلها بقرض من المصرف المركزي، و”الإدارة الذاتية” اشترت بـ190 مليون دولار. والسؤال الذي يثير الحيرة لدى المزارعين فعلاً، لماذا يتم اللجوء الى شراء القمح من الخارج وبأسعار أعلى بكثير من السعر الذي أعطاه للمزارعين المحليين، بينما هو مبذول في الداخل بسعر اقل ومع توفير تكلفة الشحن وتعقيدات النقل واجراءاته، ولمصلحة من؟