يخطئ من يعتقد أن هناك، بين الباحثين السياسيين أو المحللين الاستراتيجيين، من يستطيع أن يتنبأ بما سوف يجري غدا، وما سوف تؤول إليه الأوضاع في هذا البلد المنذور منذ سنوات للدمار والقتل والاحتلال. والسبب ضخامة الرهانات التي وضعتها وتضعها الأطراف المتنازعة عليه، وتكاد تتحول إلى رهانات مصيرية بالنسبة لعديد منها، وتناقض مصالحها، والحجم الهائل من الاستثمارات المادية والسياسية والاستراتيجية التي وظفتها لكسبها. وكما تحرم هذه الاستثمارات على أطرافٍ عديدة التراجع الذي يعني، في هذه الحالة، الاعتراف بالفشل أو إعلان الهزيمة، تجد أكثرها نفسها أمام طريق مسدودة، فمعظمها لم يعد قادرا لا على التقدّم،
ولا على التراجع، أو حتى الحفاظ على مواقعه المكتسبة.
لذلك لن تتقدّم “مفاوضات” الحل السياسي السورية التي لم تبدأ بعد، والتي لا يمكن أن تعني شيئاً آخر سوى مفاوضات الانتقال السياسي، أي استبدال حكم مدني ديمقراطي، يضمن السلام والأمن والمساواة للجميع بنظام العصابة العائلية القروسطي، ما لم تسبقها المفاوضات الدولية والإقليمية المتنافسة على اقتسام أشلاء البقرة السورية الخائرة. ولكن، يعوق التقدم في هذه المفاوضات أن النقاش لا يتعلق بتقرير مصير سورية فحسب، ومصالح الأطراف الدولية المتنازعة فيها وعليها، وإنما بتقرير مصير الشرق الأوسط بأكمله، وإعادة رسم خريطة المنطقة السياسية والجيوسياسية، ومن وراء ذلك تقرير مستقبل العلاقات الدولية.
وما يصعّب أكثر إطلاق مفاوضات دولية جدية حول تقاسم الفريسة السورية هو دخول المجتمع الدولي نفسه في حالةٍ من الفوضى الناجمة عن انهيار نظام القطبية الأحادية الذي اعتمد على السيطرة والقوة العالميتين الاستثنائيتين للولايات المتحدة الأميركية منذ سقوط جدار برلين عام 1989، والكوارث التي أنجبها، بما في ذلك على موقع الولايات المتحدة ذاتها من جهة، والصعوبات التي تواجهها ولادة نظام متعدّد الاقطاب، والصراعات المتعدّدة الأشكال والمستويات التي يثيرها تنافس الدول، الكبيرة والمتوسطة، على موضعة نفسها في خارطة النظام الجديد الذي سيحكم علاقاتها لعقود قادمة من جهة ثانية. ولا يفسر تنامي الشعبوية التي تنزع إلى أن تكون أيديولوجية المرحلة المضطربة الراهنة سوى انهيار النظام القديم، والاستهتار المتزايد عند أغلب الدول والنخب الحاكمة بالقواعد التي قام عليها، والمعايير التي كان قد فرضها على سلوك الدول والحكومات. منذ الآن، أصبح الأكثر “بلطجة” وأنانية قومية وانحطاطاً أخلاقياً، والأقل تمثلاً للقيم الإنسانية الداعية إلى التضامن والسلام والعدالة وتعزيز حكم القانون، من بين الشخصيات والقوى المتنافسة، هو الأكثر حظاً في الفوز في السباق، داخل حدود الدول وعلى الصعيد العالمي. والمثال الأبرز على ذلك تسلم مقامر سوقي دفّة السلطة في إحدى الدول الأكثر تأثيرا في المصائر العالمية، لا تعني له الثقافة ولا القيم الإنسانية ولا المنظمات الدولية شيئا، ومن باب أولى مصائر الشعوب والدول الأخرى، ولا تتجاوز
حساباته الدولية تقدير عدد الأصوات التي يمكنه حصدها في انتخابات تجديد الرئاسة الأميركية القادمة.
من حق السوريين جميعاً، المعارضين والموالين، أن يشعروا بالإحباط، وأن يصيبهم اليأس، أمام هذا المشهد البائس لعالمٍ لم يفقد صوابه فقط، بعد أن أضاع المكتسبات الكبيرة التي حققها بعد الحرب العالمية الثانية، للحفاظ على الحد الأدنى من توازناته، وتعزيز أطر التشاور والاعتماد المتبادل في مؤسساته، وإنما فقد أيضا ضميره، ومجموعة القيم الضرورية لبث الحد الأدنى من الانسجام فيه، وتحويله إلى عالم قادر على توفير شروط الحياة والسلام للبشر. وكما دفع هذا الوضع ثلاثة مبعوثين دوليين سابقين، من بينهم الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، كوفي عنان، إلى الاستقالة واليأس، لا يبدو أن حظوظ المبعوث الجديد، غير بيدرسون، ستكون أوفر، مع استمرار هذه الشروط، مما كانت لدى سابقيه.
لا الروس ولا الأميركيون ولا الترك ولا الإيرانيون ولا العرب ولا الإسرائيليون قادرون على التوصل إلى تسوية فيما بينهم، وليست لديهم أيضا القدرة على حسم الأمور لصالح أي طرف أو تكتل منهم. أكثر من ذلك، وعلى جميع الأحوال، ومهما سعوا إلى تذليل الخلافات التي تمزّقهم، لن يكون بإمكان الدول والقوى الأجنبية أن تتقدّم على طريق التوصل إلى مثل هذه التسوية في سورية من دون حضور السوريين ومشاركتهم.
(2)
هكذا عادت الكرة ثانية، في تحدّي الخروج من الدائرة الجهنمية، إلى ملعب السوريين. وهم يدركون ذلك أكثر فأكثر، كما يشير إليه تجدّد حماسهم لإطلاق النداءات، وتشكيل التجمعات وتجديد المبادرات، والدعوة إلى المؤتمرات الرامية إلى حشد القوى وتوحيد الصفوف من أجل ملء الفراغ الذي لا يمكن لأحد أن يملأه غيرُهم، أي تكوين القوة السورية الحرة والمستقلة التي يتوقف على وجودها توحيد السوريين، وانتزاع حقوقهم المستباحة من طغاتهم وشبّيحتهم وحلفائهم. ولكن يقف أمام تحقيق هذا الحلم المشروع أمران: الأول استفحال الوجود الأجنبي وحرص القوى الخارجية، دفاعا عن مصالحها ورهاناتها، على تهميش السوريين، واستخدامهم وسائل وأدوات. ومن ضمن ذلك، الحرص على الإبقاء على كابوس النظام وإرثه وتقاليده
الهمجية، وتقويض أي فرصةٍ لفتح الحوار المحرّم عليهم، في انتظار إعادة تشكيل سورية جديدة، من دون هوية ولا وطنية ولا ثقافة غير ثقافة الكراهية المتبادلة والحقد الأعمى والانتقام، سورية المستنقع الذي يسمح لجميع الحشرات والأفاعي بالنمو والازدهار.
والأمر الثاني، ولا يقل أهمية، عجز السوريين المستمر عن تجاوز انقساماتهم وتشتت قواهم وتنظيماتهم، ومزايدة بعضهم على البعض الآخر، وتنافسهم على احتلال المقاعد الأمامية، وتعطيل بعضهم مساعي بعض، ووضع جهودهم وتضحياتهم، واحدتها في مواجهة الأخرى. والنتيجة تضارب المبادرات، وتعدد المساعي، وتفرق الصفوف بدل توحيدها، وتعميق الشعور بالفراغ على الرغم من الضجيح الدائم والحركة المستمرة. يفاقم من هذا العجز الشعور بالإحباط نتيجة الفشل المتجدّد في بناء إطار وطني فعال، ونجاح الإعلام العالمي في إظهار الكارثة الإنسانية التي حلت بسورية، بما فيها الاحتلال متعدّد الاطراف، انتصارا للنظام وتمهيدا لإعادة تأهيله. ومع تنامي الشعور بالهزيمة لدى بعضهم وخسارة الرهانات الكبرى لدى آخرين، وعمق الفاجعة التي حلت بالسوريين، وغياب المراجعات الموضوعية والعقلانية للتجربة، والتجرؤ على تقديم رؤيةٍ واقعيةٍ لتجاوز الأخطاء وإصلاح الحال، من الفاعلين الرئيسيين، انقلب العداء للآخر، داخل صفوف المعارضة والموالاة، إلى عداء للذات، وتهشيم للصديق قبل العدو، وتشكيك في وجود سورية ذاتها وطنا صالحا وشعبا واحدا.
هكذا، لم يعد تشبيح النظام، وما رافقه من العنف المادي، البدائي والوحشي، وحده ما يشلّ
السوريين اليوم، ويعمل على تشتيتهم وتدمير عمرانهم ومعنوياتهم، فقد غربت شمس الحرب الشاملة التي أعلنها نظام العصابة عليهم، إنما هو العنف المعنوي أو اللامادي المرتد على الذات، العنف اللفظي والعنف السياسي والعنف الأخلاقي والعنف النفسي الذي يتغذّى من الشعور القاتل بالفشل، ومن مناخ الإحباط وانعدام الأمل وضياع الفرص، ويدفع الأفراد إلى الانتقام من أنفسهم، واتهام بعضهم بعضا، وتنمية المشاعر والمواقف السلبية والسالبة لدى كثيرين منهم، بدل تفعيل قيم التضامن وإحياء روح الأخوة النضالية والألفة الإنسانية التي كانت المصدر الرئيس لقوة الشعوب في مواجهة المحن والكوارث. والنتيجة ابتعاد السوريين أكثر من قبل، بعضهم عن بعض، وتفاقم شعورهم بتخلي العالم عنهم، وانفراط عقد اجتماعهم، وفقدان الثقة بمقدراتهم.
لن نتقدّم خطوة واحدة بالتسليم للدول الأجنبية والمراهنة على حسن نيات الدول التي تتنازع علينا، ولم تعد ترى مصيرنا إلا بدلالة مصالحها ورهاناتها المتعارضة. لكننا لن نتقدّم خطوة واحدة أيضاً ما لم ننجح في السيطرة على مخاوفنا وإحباطاتنا، ونغير من أسلوب تفكيرنا وخطابنا الغوغائي، وطريقة تعاملنا بعضنا مع بعضنا الآخر، أي ما لم نتخلص من ثقافة التشبيح والعنف الموجه نحو الذات، والإقرار بالواقع كما هو، واقعنا الذاتي بشرا نخطئ ونصيب، والواقع الموضوعي الذي يسحقنا، ونتحمّل مسؤولياتنا من خلال الاعتراف بأخطائنا والعمل الجاد الجماعي لإصلاحها. من دون ذلك، لن تقود مساعينا المتفرّقة والمتعارضة والمتنافسة إلا إلى مزيد من الإحباط وانفراط العقد، وتعاقب الفشل وتضارب المبادرات.