جسر:مقالات:
استثمرت روسيا في كل أشكال الخلافات بين الأطياف السورية، سواء داخل النظام الذي استدعاها ليحتمي بها، أو ضمن مجموعاتٍ سميت بكيانات المعارضة، ولعبت أدواراً مختلفة منذ انخراطها المباشر عام 2015 في الحرب إلى جانب النظام، وتكيّفت سياساتها خلال السنوات مع مزاجيات الإدارات الأميركية، وتغير أولويات هذه الإدارات في المنطقة، وكانت موسكو وفيةً لتحقيق الخطة في الإبقاء على حالة النزاع مستمرة في سورية وامتداداتها إلى المنطقة برمتها. وهو ما برّر تعاطيها مع الحرب ضد المناطق الخارجة عن سيطرة النظام من موقع المساندة الجوية فقط، وترك تفاصيل الحسم على الأرض للقوى المتصارعة المسنودة من جهات عديدة، بما يحقق التوازن في القوة، ويؤدّي إلى نتيجة لا غالب ولا مغلوب، وهذا ما استخدمته لاحقاً ورقة تفاوض ناجعة مع كل المتصارعين على الملف السوري، وضمناً النظام والمعارضات.
وفي تفاصيل تقاربها مع المعارضة السورية، وتصنيفها القوى المحلية بين معارضة وطنية وإرهابية، لم تختلف عروضها المقدمة لكلا الجانبين، فحيث بدّلت وظائف بعض الفصائل المحسوبة سابقاً على الإرهابيين من جانبها، وعقدت الصفقات معها، استدارت عن فصائل، ومنها سياسية، لتبقيها على لائحتها السوداء، وتستعيض عنها بما تسميه المعارضة المعتدلة المعلن عنها من موسكو، ولا يجرى ذلك في غياب التوافق الأميركي أو ضد إرادته، بل يدخل في قراءة روسية دقيقة لما وراء عناوين سياسية طرحها الجانب الأميركي في اتفاق سرّي عقد بين وزيري خارجية الدولتين، الأميركي جون كيري والروسي سيرغي لافروف، في سبتمبر/ أيلول عام 2016 خلال مجريات حرب النظام على حلب.
وضمن هذا السياق، تأتي التوافقات الجديدة بين الكرد المدعومين أميركياً، وبعض كيانات المعارضة المحسوبة على روسيا، وتحريض نقاشاتٍ لطالما عمدت القوى السورية إلى تغييبها، أو الالتفاف عليها، ومنها مشاركة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) أو الإدارة الذاتية، إلى جانب منصات المعارضة، في ما سمّيت مفاوضات على الدستور السوري الجديد، وهو ما طرح نقاشاً حادّاً حول شكل الدولة السورية الذي لا يستقيم بشكله “السابق” في ظل واقع سورية الحالي، واختلاف المرجعيات الدولية للقوى المحلية الحاكمة فيها.
وحيث لا تزال فكرة الفدرالية تشكّل أحد أهم مجالات السجال بين القوى الكردية و”المعارضات” السورية، الأمر الذي يبين قصور رؤية كل طرفٍ ومحدوديته ضمن سباق من يستطيع أن يسحب بساط السلطة إلى تحت قدميه، والفجوة الواسعة بين الأطراف، وجدت روسيا المساحة الملائمة للتحرّك وصناعة ما تسميه المعارضة المعتدلة التي تستطيع مناقشة الأمور من زوايا “دائرية”، بما يحقّق ما طرحته الإدارة الأميركية سابقاً في مشروعها الذي سمي اللاورقة، وتطرح فيه شكلاً جديداً للدولة السورية، ولكن بتفاصيل روسية تأخذ المشروع إلى ما يمكن أن يكون نسخةً مطوّرة عن قانون الإدارة المحلية، وبما يحقق وجود ولايات سورية ذات حكم محلي، في خطوةٍ مرحليةٍ قصيرة، ضماناً لمصالح تركيا في مناطق سيطرتها من جهة، وتحقيقاً للإرادة الأميركية في التعاطي مع المسألة الكردية ضمن الحل السياسي لسورية.
لعله كان من المفيد للمعارضة مناقشة فكرة الفيدرالية وتوضيح أبعادها، لمعرفة مدى تطابقها مع أهداف الثورة، بإنهاء الاستبداد وإقامة دولة مدنية وديمقراطية، تضمن المساواة بين المواطنين، بديلاً عن تجاهل الطرح، وتركه أداة بيد الولايات المتحدة مرة، وبيد النظام أخرى، وبيد روسيا تالياً، وبما يحقق لها مكسباً سياسياً على طاولة المفاوضات، ومن جهة المعارضة هذه المرّة.
كان فهم المعارضة (الممثلة بالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية وبعده الهيئة العليا للمفاوضات السورية) الفيدرالية، على الدوام، من منظور أن أحد الأطراف يريد انتزاع دولته من سورية، أي السعي إلى التقسيم، ما استفز الدول المحيطة التي يتوزّع فيها أكراد المنطقة في تركيا والعراق وإيران، وحرّك مخاوفها، وأسهم ذلك في تحريك نوازع الخلاف الأهلي داخل سورية، ووضع القضية تحت مسمّى الصراع العربي – الكردي، وساعد على ذلك تعاون بعض الكرد مع أحزاب كردية انفصالية، منها حزب العمال الكردستاني المصنّف “إرهابياً” من تركيا، وفرعه الإيراني في جبل قنديل. وعليه، غابت فكرة أن الفيدرالية أو أي تسميةٍ بديلةٍ تقوم على وحدة سورية وطناً لكل السوريين، أي أنها نوع من تنظيم للإدارة وتقاسم الموارد، لمنع تسلط المركز، واستحواذه على معظم موارد البلد، وضمان توسيع المشاركة في الحكم وصياغة القرارات المصيرية.
وهو ما تعمل عليه اليوم روسيا بإعطاء مزايا إدارية مناطقية، يضمنها الدستور الذي يمكن أن نقرأ تفاصيله من مشروع الدستور الروسي الذي رفضته معارضة أستانة عام 2017، وهو لا يبتعد كثيراً في تفاصيله عن “اللاورقة” الأميركية، والذي يمكن القول إنها الثغرة التي استغلتها موسكو لعقد التوافقات الكردية مع تكتلات سياسية “معارضة”، من دون اعتراضات أميركية.
تضمن التحرّكات الروسية أخيراً استمرار التفاعل مع الملف السوري دولياً، لكنها، في المقابل، على الرغم من بيانات المساندة لعمل الأمم المتحدة والمبعوث الأممي إلى سورية، غير بيدرسون، وإلزام النظام حضور اجتماعات اللجنة الدستورية في جنيف التي هي أقرب ما تكون إلى “طبخة بحص”، فإنها تعمل وفق ترجمة خاصة لقرار مجلس الأمن 2254، وهو ما عبرت عنه زيارة وزير الخارجية لافروف، أخيراً، دمشق، حيث لا تغييرات في الموقف الروسي من استمرارية النظام وإعادة تدويره في انتخابات 2021، مع السماح لأشكال جديدة من المعارضة بالنمو لحساب روسيا أولاً، ولترتيب قواعد الانتقال إلى سورية، بوجه روسي مطلق الصلاحية، كما عبّرت عنه الإدارة الأميركية في تصريح للمبعوث الخاص، جيمس جيفري، أن جميع القوى الأجنبية ستخرج من سورية بعد التسوية، بما فيها القوات الأميركية، ولن يبقى فيها سوى القوات الروسية.
المصدر: العربي الجديد