جسر : متابعات
كشفت جائحةُ الكورونا عن أحوالٍ من الجهل والتخلُّف في البلاد العربية، تفوقُ ما يمكن للعقل المحدود أنْ يتصوّر. ويبدو أنّ منتجات الحداثة المستوردة من الخارج، كالأجهزة الإلكترونية والإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي؛ لم تخترقْ جلد التخلّف العربي الكتيم. بل أعتقد أن وصول منتجاتٍ كهذه إلى مجتمعات لم تنتجها، وليس لديها من التقدّم العامّ ما يساعدها على استيعابها، يزيد من تخلُّف تلك المجتمعات، وذلك لأن منتجات الحداثة سوف تستخدم -خطأً أو قصداً- لنشر الجهل وتزييف المعرفة.
في ظل جائحة تعجز أقوى دول العالم اقتصاداً وإدارةً عن احتوائها، تبرز المصيبة الأولى في عددٍ من البلدان العربية، ألا وهي غياب الدولة، الدولة التي تستطيع أن تفرض حزمة القرارات المتعلّقة بالحجر الصحي على المواطنين، بقوة القانون والأجهزة التنفيذية، مثل إغلاق المقاهي والمطاعم ومنع التجمّع في الأماكن العامة، وحظر الحفلات الاجتماعية والشعائر الدينية الجماعية. وكذلك تطفو على السطح معضلة تبعيّة عدد من الدول العربية إلى إيران، الدولة المنكوبة رقم واحد في الشرق الأوسط بجائحة الكورونا، فهل تستطيع أشباهُ دُوَلٍ مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن اتخاذَ قراراتٍ سيادية بإغلاق حدودها و/أو وقف رحلاتها مع إيران؟ وهل تستطيع أشباهُ الدُوَل تلك؛ إخضاعَ المسؤولين الإيرانيين من سياسيين وعسكريين وأمنيّين إلى إجراءات الفحص والحجر الصحي المطلوبة؟!
ليس غياب الدولة بالأمر الجديد، بل هو لُبّ المشكلات وسبب الكوارث معظمها. وإذا ما كانت البنية التحتية الصحية في فرنسا وألمانيا مهدّدة بالعجز أمام جائحة الكورونا، فكيف هو حال البنية التحتية في دول النهب والفساد؟ الدول التي تذهب ميزانيتُها إلى جيوب العصابة الحاكمة، وإلى شراء أسلحة لن تستخدم إلا ضدّ الشعب. لا يقتصر الأمر على ذلك، بل إنّ أفعال تلك الأنظمة تزيد من خطر الجائحة على الناس، مثل إنكار وصولها إلى سوريا، ومثل التضليل الإعلامي عبْرَ بثّ خرافات مثل “سوريا الله حاميها” أو “مصر الله حاميها”.
بالإضافة إلى غياب الدولة، كشفت الكورونا عن غياب الوعي العامّ، إذ استغلَّ كثيرٌ من الناس تعطيل المدارس والجامعات، للخروج في نزهات إلى الحدائق والملاهي والأسواق، بدلاً من الجلوس في البيت. كما سادَ التوكُّل على الغيب، وتسليم أمر الروح إلى بارئها، دون الالتزام بقواعد السلامة الصحية. أي أنّ هذا النوع من “المؤمنين” يتوكّل من دون أنْ يعقِلَ ناقته، على عكس ما يوصي به الحديث الشريف. وكما هي العادة، ما إنْ يسمع رهَطٌ من رجال الدين بأي ظاهرة جديدة، حتى يبدؤوا الخلطَ بين أمور الدين والدنيا، بين مسائل الغيب وقضايا الواقع، ويُضلّلوا جمهورَ المؤمنين بكلامهم عن موضوع طبّي علمي ليس من حقّهم الكلام فيه.
بدءاً من القسّ المصري الذي خطبَ بالمحتشدين في الكنيسة قائلاً إنّ الصلاة تمنع الكورونا من الاقتراب منهم، إلى اللطميات الشيعية الجديدة التي تتضمّن عباراتٍ عن قُدرات عليّ والحسين الخارقة على شفاء الكورونا، وليس انتهاءً بمئات المسلمين الذين أصرّوا يوم الجمعة الماضية على صلاة الجماعة في الساحات العامة. هنا الموضوع لا يتعلّق بحقّ البشر في ممارسة الشعائر الدينية، ولا يتعلّق بحريتهم في الإيمان والاعتقاد، بل يتعلّق بأن لهذه السلوكيّات نتائج كارثيّة تمسّ حياة آلاف البشر في مختلف أنحاء العالم. وإذا كان “المؤمن” منهم مُسلّماً أمرَه لله، وغير خائف على حياته، فليس من حقّه أبداً أنْ يأتي بهذا السلوك الذي تترتّب عليه نتائج سلبية تمسّ حياة الآخرين، لأن حياة الآخرين ليستْ ملكه. وأكثر من ذلك، إنّ هذا التضليل حول طبيعة الوباء، وإيهام البشر بإمكانية تجنُّبه عن طريق الاتّصال بالغيب، هو مساهمة مباشرة في نشر الوباء، وبالتالي فهو يرقى إلى جريمة الشُرُوع بالقتل.
أما ثالثة الأثافي؛ فهُم المحلّلون العرب على الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي، إذ أعادتْ جائحةُ الكورونا “نظرية المؤامرة” حيّةً تُرزق، وأعادت رهطاً من المثقفين العرب إلى شغفهم في اختراع المؤامرات وتفسير العالم بها. في البداية كانت الكورونا مؤامرة أميركية لضرب اقتصاد الصين، ثم تحولت بعد فترة وجيزة إلى مؤامرة صينية لضرب أوروبا وأميركا. المهمّ أن هنالك مؤامرةً ما، وعصابة خفيّة تتحكّم بالعالم. وبينما السياسة عِلمٌ يُدرَس في الجامعات وفي المراكز البحثية، ولأنها علم فينبغي أن تستند إلى منهج؛ إلا أنها ما زالت عندنا ضرباً من التنجيم وقراءة الطالع، والمحلّل السياسي الشاطر هو مَن يأتي بالتنبّؤات الأغرب والأكثر إثارة. إنّ التفكير وفقاً لنظرية المؤامرة المحبّبة عندنا، هو إقالة للعقل أولاً، واستبعاد للعلم ثانياً. إنه ضربٌ من تفسير الواقع بالغيبيّات والقوى الماورائية، فهو يشبه الإيمان بقُدرة السحر والشعوذة والعفاريت. ولأنها ضربٌ من التنجيم، فقد كذبَ القائلون بنظرية المؤامرة ولو صدقوا.
ولأن مدارسنا وجامعاتنا العربية، وثقافتنا العربية بالعموم، خالية من مفهوم “نقد المصدر”؛ تجد مثقفين عرباً -من حملة الشهادات وأصحاب الكتب- يستقبلون معلوماتٍ خاطئة ويُعيدون نشرها عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، دون تدقيق أو تمحيص، ودون تمييز درجة مصداقيتها تبعاً للمصدر القادمة منه. وهكذا تحظى فيديوهات نجوم “السوشال ميديا” باهتمامٍ أكثرَ مما يلقاه كلام الأطباء، وتصبح المعلومات التي تنشرها صفحة فيسبوكية على قدْر المساواة مع المعلومات الصادرة عن منظمة الصحة العالمية. وهذا يُعيدنا إلى ما أشرتُ إليه في المقدمة، أي استخدام منتجات الحداثة في نشر الجهل وتزييف المعرفة، بسبب غياب الوعي العامّ، وغياب الدولة قبل ذلك.