عبد الناصر العايد
كشفت وسائل إعلام، النقاب، عن إلقاء السلطات الفرنسية القبض على رجل أعمال سوري يحمل الجنسية الفرنسية، مطلع هذا الأسبوع، بتهمة توريد مواد طبية إلى سوريا استُخدم جزء منها في عملية تصنيع أسلحة كيمياوية محرمة دولياً استخدمها النظام ضد مواطنين فرنسيين، وهذا موضوع دعوى قضائية رفعتها سيدة كانت في ريف دمشق لدى قصفها بالسارين، وتضررت هي وعائلتها، وهي تحمل الجنسية الفرنسية قبل وقوع الهجوم، الأمر الذي يحتم على السلطات فتح تحقيق قضائي في الواقعة وتقصي عناصر الجريمة والضالعين فيها وملاحقتهم، حسب الولاية الوطنية للقضاء الفرنسي بصفته القضاء الوطني للضحية.
لا تقتصر استقصاءات الفرنسيين ولا معلوماتهم التفصيلية حول القضية، على ملاحقة رجل الأعمال هذا، الذي جمعت كل المعلومات عن الشحنات التي ورّدها انطلاقاً من بلدان أوروبية، ثم شحنها إلى دبي ومنها إلى بيروت ثم إلى سوريا. البحث شمل، وفق مصدر مطلع، كمية الأدوية المنتجة، والتي طُلبت هذه الشحنات على أساسها، إحداها كشفت النقاب عنها صحيفة “زونتاجس تسايتونج” السويسرية، حيث طلبتها شركة “إم بي آي” للأدوية في سوريا، من شركة سويسرية في بازل مملوكة لشركة “برينتاج” الألمانية، مكونة من الأيزوبروبانول والديثيلامين، وزعمت الشركة السورية أنها ستستخدمها لإنتاج مسكنات للآلام. لكن مصانعها لم تتلقَّ سوى 20 في المئة من الكمية المُرسلة، ولم يُعرف مصير بقية الشحنة التي اختفت داخل سوريا، والتي يمكن استخدام عناصرها أيضاً لإنتاج مادة السارين.
لقد صار معلوماً أن غالبية القوى الكبرى لديها أدق التفاصيل بشأن إنتاج ذلك السلاح الفتاك، وعلى رأسهم الفرنسيون الذين كانوا يتمتعون بعلاقات تعاون متينة مع مركز البحوث العلمية الذي أنتجه، خصوصاً أن مؤسس المركز، الدكتور واثق شهيد، خريج الجامعات الفرنسية، قد حاول استنساخ معهد البوليتكنيك الفرنسي، واستعان بمناهجه وخبرات فرنسية في التدريس، كما كانت فرنسا موئل المبتعَثين لصالح المركز على مدى عقود، وقصة صالح النجم الذي ابتعثه المركز إلى فرنسا وجندته المخابرات الإسرائيلية معروفة في الأوساط السورية.
لكن المعطيات الأكثر إثارة ودقّة، تملكها واشنطن. ووفقاً لأحد علماء المركز المُنشقين، فإن المدير الأسبق لمعهد الكيمياء في مركز البحوث العلمية، الدكتور أيمن الهبل، زوّد المخابرات الأميركية بكافة سجلات الإنتاج، مع عينات من الأسلحة التي أنتجت، مثل السارين وغاز الأعصاب XV والخردل. وفوق ذلك قام بنفسه بتصوير فيديو تفصيلي للمعمل، بحجة التحسب لإعادة تركيبه في مكان آخر في حال تعرض للقصف، وقدم الشريط للأميركيين. الهبل، وفق المصدر الذي تحدثنا إليه، وقع نتيجة وشاية من نائبه، الذي عثر بالصدفة على حساب بنكي للهبل العام 2001، فأبلغ صديقه آصف شوكت بذلك، وكان يظنّ أن الهبل يتقاضى عمولات جانبية من الشركات التي يتم استدرار مستلزمات الإنتاج منها. وما أن واجه شوكت الهبل بتلك الحسابات، حتى اعترف بعمالته للمخابرات الأميركية، ليجري إعدامه في وقت ما بين العامين 2002 و2004.
من ناحيتها تحتضن المملكة المتحدة وتمول أكثر من جهة تعمل على هذا الملف سراً، وتجمع أدق الأدلة، ويُنتظر أن تكشف عن نتائج عملها في الوقت المناسب للحكومة البريطانية.
على صعيد المنظمات الأممية، فإن منظمة حظر السلاح الكيمياوي OPCW، وبعثة تقصي الحقائق التابعة لها FFM، وفريق تحديد المسؤولية في جرائم السلاح الكيمياوي IIT، تواصل عملها بشكل حثيث على هذه القضية التي تكاد أن تكون الأهم والأخطر أمامها منذ تأسيسها. ويعتقد مصدر يعمل مع المنظمات المذكورة أنها ستصدر، خلال الأشهر الأولى من العام المقبل، نتائج ثلاثة تحقيقات تثبت تورط نظام الأسد في مجازر كيماوية محددة في دمشق وإدلب، وتقريراً آخر يدين “داعش” بارتكاب واحدة من تلك الجرائم.
وتتابع منظمات حقوقية سورية، على رأسها المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، دعوتين أخريين في كل من السويد وألمانيا، حول القضية نفسها، لكن تحت الولاية القضائية الدولية، وهذه رغم بطئها وضعف قراراتها مقارنة بالولاية القضائية الوطنية. إلا أنها تبقى وسيلة ذات قيمة قانونية، على الأقل في البلدين اللذين قبلت السلطات القضائية رفع الدعويين فيهما.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: إذا كانت لدى الدول الغربية كل هذه المعطيات الدقيقة والتفصيلية عن سلاح محرّم دولياً استُخدم في “جرائم ضد الإنسانية”، فلماذا لا تتحرك؟ والجواب ببساطة، إن جمع هذه المعطيات من طرف القوى الكبرى لا يأتي لاعتبارات العدالة، بل لمقتضيات سياسية، وستُستخدم في المكان والوقت المناسبين، ضد النظام أو حلفائه، خصوصاً روسيا.
لكن يجب ألا يغيب عن بالنا أيضاً، أن دول الغرب ديموقراطية بهذه الدرجة أو تلك، ووجود تلك المعطيات في حوزة قادتها الحاليين هو رادع صارم يمنعهم من قبول النظام مجدداً أو المساهمة في تعويمه بأي طريقة كانت. فلا قائد منتخباً يجرؤ على وضع يده في يد ملطخة بالدماء والكيمياوي كالتي لرأس نظام الأسد، الذي تسود قناعة لدى القادة الغربيين بأنه سيطاح به في نهاية الأمر، وسيتم الكشف عن كل جرائمه، وعن شركائه أيضاً، وحينها سيوصم كل قائد أو زعيم تجرأ على التعامل معه بالتواطؤ العَمد مع مجرم حرب، وذلك مما لا يُغتفر.
لقد خدمت تناقضات السياسة الدولية، نظام الأسد طويلاً، وستستمر في خدمته إلى زمن غير معلوم. لكن ملفات انتهاكاته تتراكم وتتسع، وسيبقى استخدامه للسلاح الكيماوي على رأسها، وآخذاً بخناقه حتى يقتله. وحتى ذلك الوقت، سيبقى ضحاياه تحت الأرض في سوريا، وفي المنافي، في انتظار حمار العدالة الأعرج، الذي يأتي كعادته متأخراً، لكنه يأتي في النهاية.
المصدر: المدن