جسر: متابعات:
عاودت الليرة السورية انخفاضها في الأيام الأخيرة، ليصل سعر صرفها إلى ما يقارب 700 ليرة مقابل الدولار في بعض المناطق، وترتفعَ أصوات الشكاوى من أثر التدهور على تكاليف المعيشة. التدهور الجديد ارتبط في أذهان كثر بما قيل عن تحجيم إمبراطورية آل مخلوف المالية، وقيامهم قبل ذلك بتحويل كمية ضخمة من الدولارات إلى الخارج، ثم أشيعت أخبار في الداخل السوري عن تدخل أمن القصر الرئاسي مباشرة ضد بعض حيتان المال المقرّبة من الأسد لمنعها من المضاربة بالدولار، وهذا ما يؤدي بدروه إلى هرب حيتان أخرى بأموالها.
بالطبع، لا تفسير “رسمي” يُقدّم للضحايا من الفقراء، وقد أصبحت نسبة الذين دون خط الفقر 80% بموجب تقارير أممية، وترويج الإشاعات غايته فقط تبرئة آل الأسد من المسؤولية عن الانهيار برميها على شركائهم. كنا إثر طي صفحة المواجهة مع الإخوان في منتصف الثمانينات قد شهدنا وضعاً مشابهاً، فحينها مع المواجهة فقدت الليرة السورية حوالي نصف قيمتها، لتتدهور لاحقاً خلال أيام وتهبط قيمتها من 8 ليرات إلى 44 ليرة مقابل الدولار. وقتها عُزي الهبوط إلى رفعت الأسد، وأُشيعت الأقاويل عن كونه قد سحب رصيد المصرف المركزي من العملات الصعبة قبل ترحيله إلى منفاه الفرنسي.
لا نبالغ إذا قلنا أن التفسيرات الساذجة الآن ومن قبل تسري بسهولة بين الناس، ومردّ السهولة جهل وتجهيل بالاقتصاد مورس على السوريين منذ انقلاب البعث، ليتعززا مع الدولة الأسدية التي تحولت إلى صندوق أسود خارج كل معايير الشفافية. فخلال الخمسين سنة الأخيرة لم يعرف السوريون شيئاً عن اقتصادهم، لا في حالات الارتياح النسبي العابرة ولا في الأزمات الأكثر استدامة، لذا أتت الأزمات الحادة في أغلب الأحيان لتعصف بالشرائح الضعيفة بمثابة مفاجأة غير متوقعة، بصرف النظر عن قدرة أو عدم قدرة تلك الشرائح عن اتخاذ إجراءات وقائية في حال المعرفة.
قد يكون مفاجئاً اليوم أيضاً إذا قلنا أن الليرة السورية هي في أحسن أحوالها، فسعر الصرف الأخير لا يعبّر سوى عن عملة ما تزال محكومة بقبضة السلطة التي تمنع الانهيار مؤقتاً لحساباتها الخاصة، وإذا أردنا الاستئناس بتجربة قريبة فلعل سعر صرف الليرة اللبنانية يقدّم لنا المثال المناسب. قيمة الليرة اللبنانية قبل الحرب إزاء الدولار كانت تعادل قيمة الليرة السورية أو تزيد عليها قليلاً، وحيث لا وجود لسلطة لبنانية مركزية مسيطرة على الطريقة الأسدية أخذت الليرة اللبنانية مسارها الطبيعي من الهبوط لتستقر عند ما يقارب 1500 ليرة مقابل الدولار.
بل إن المقارنة مع المثال اللبناني رحيمة جداً، إذ بقياس الأهوال الاقتصادية للحرب في البلدين نستطيع أن نتوقع انهياراً أقوى لليرة السورية، إذا تُركت لقوانين السوق. وعلينا لتكون المقارنة واضحة استرجاع السجل العسكري لحرب الأسد على الثورة، بما فيه استعادته السيطرة مؤخراً على قسم واسع من الأراضي، حتى إذا كانت تلك المساحات شبه فارغة من السكان عطفاً على سياسة الإبادة والتهجير، أي على الرغم من عدم وجود كتلة سكانية ضخمة تشكّل عبئاً اقتصادياً على سلطة الأسد.
أول ما ينبغي تذكره أن قوات الأسد، وفق سياسة الحصار والتجويع، قد استهدفت البنية التحتية في كافة المناطق الثائرة، وقصفت على نحو منهجي الأراضي الزراعية التي أصبح قسم كبير منها غير قابل للزراعة مجدداً وفوراً. وهي قصفت، وما تزال تقصف في إدلب مثلاً، حقولاً من الأشجار المثمرة يتطلب تعويضها عشرات السنين. البدء بالإشارة إلى مصير الأراضي الزراعية سببه أنها خزان الأمان الغذائي “أي الحد الأدنى” في أوقات الأزمات، وعلى هذا الصعيد لا بد من التنويه بوجود مساحات واسعة من الأراضي الزراعية تحت سيطرة القوات الكردية، وهي الأراضي التي تعتبر منذ القديم خزان سوريا من الحبوب.
فضلاً عما سبق استهدفت قوات الأسد عدداً ضخماً من المنشآت الصناعية، بينما هرب قسم ضخم من الرأسمال السوري الصناعي كما يفعل في كل الحروب، وتلك الصناعات كانت توفر مبالغ طائلة من قيمة المستوردات البديلة، بما فيها الصناعات النسيجية والدوائية على سبيل المثال. لم توفر قوات الأسد في قصفها المنشآت الخاصة أو العامة، بمعنى أنها خلال حوالى ثماني سنوات مارست تدميراً منهجياً للاقتصاد السوري، وعلى نحو لا سابق له في الحروب الخارجية أو الأهلية، وهي عندما استرجعت السيطرة على تلك المناطق استعادت أرضاً أحرقتها من قبل.
كنا كما نذكر خلال فترة سابقة إزاء فكرة راجت تحت عنوان “سوريا المفيدة”، ويُقصد فيها الجزء من سوريا الذي استعاد الأسد السيطرة عليه فعلاً. لكن يتبين لأي عاقل أن سوريا المفيدة بالمفهوم السياسي المعنوي هي سوريا المستفيدة بالمعيار الاقتصادي، لأن المساحات الباقية خارج سيطرة الأسد فيها خزان النفط والغاز، وفيها خزان سوريا من المياه وزراعة الحبوب “القمح خاصة” التي كانت سلطة الأسد من قبل تتحكم بتجارتها الداخلية والخارجية.
يلزم لأي تقييم لواقع الليرة السورية أن ينطلق من المعطيات السابقة بتوسع وتفصيل أكبر، لأن تهريب رامي مخلوف ملياري دولار وفق ما يُشاع لا يتسبب بالتدهور الحاصل، ولا ينبغي “إذا صحّ” أن يتسبب به في حال وجود اقتصاد حقيقي. حتى الحديث عن أثر العقوبات الغربية “وقد يصحّ نسبياً” لا يفسّر وقوع 80% من السوريين تحت خط الفقر، لأننا لو لم نكن أمام التخريب المتعمد لبنية الاقتصاد، لو لم نكن خلال سنوات تحت شعار “الأسد أو نحرق البلد”، لما أدت العقوبات أو تهريب بعض العملة الصعبة إلى التدهور الحاصل في قيمة الليرة والمعيشة معاً.
فيما يخص قيمة الليرة تحديداً، إذا افترضنا اليوم رفعاً للعقوبات الغربية كلها، مع كفّ يد الأسد عن التحكم في سعر صرفها، فالنتيجة المتوقعة هي انخفاض قيمتها إلى القيمة المناسبة حقاً لاقتصاد منهار وهي أدنى بكثير من الرقم الحالي. وإذا تخيلنا السيناريو الوردي جداً، أي إذا تخيلنا توقفاً فورياً للعمليات العسكرية مع الشروع في إعادة الإعمار، فإن سعر صرف الليرة السورية سينخفض أيضاً على نحو حاد بسبب ارتفاع الطلب على الدولار جرّاء ارتفاع المستوردات، لكننا في هذه الحالة أمام فارق جوهري هو تلازم انخفاض العملة مع خلق فرص عمل ومع ارتفاع في الأجور، ومع ربط تلقائي يُحدثه السوق بين الأجور وقيمتها بالعملة الصعبة. في هذه الحالة الأخيرة قد نتحدث عن التضخم، إلا أن التضخم وحده وفي بعض الحالات قد لا يكون معياراً سلبياً محضاً كما هي سمعته السلبية المعتادة.
لكن السيناريو الأخير ليتحقق بشكل جيد يتطلب سلطة لا تملك تغوّل سلطة الأسد التي تتلهف إلى سرقة فوائد إعادة الإعمار كما سرقت ثروات البلد خلال عقود، والسرقة المأمولة سيكون قسم منها من أموال الجهات المانحة، بينما سيكون القسم الأهم من أتعاب السوريين أنفسهم وعلى حساب معيشتهم. بالعودة إلى تهافت المبررات التي تُساق اليوم حول تراجع سعر الليرة، لو تعلق الأمر بملياري دولار تم تهريبها فالأولى بآل الأسد تعويضها بفتات من أرصدتهم خارج سوريا، مع التذكير بأن مجلة فوربس المختصة بالمال قدرت ثروتهم قبل سنوات بـ132 مليار دولار. بالطبع، نحن نعلم أن دولاراً واحداً من تلك الثروة المسروقة لن يعود للسوريين، وما يقدّمه بعض الأمثلة السابقة المشابهة أن الذي حرموا شعوبهم من تلك الثروات لم يتمكنوا لاحقاً من التنعم بها كما يشتهون.
المدن 10 أيلول/سبتمبر 2019