ريما فليحان:
كم كانت رحلة السوريين تلك شيقة، وكم كانت سهله ومليئة بالمفاجئات السارة، بدءاً من لحظة تسلم الخمسين دولاراً التي يتقاضاها المتظاهر “الموظف” والتي من أجلها يضحي بمتعة ساعات عمله الجميلة والجذابة في بيئة مؤسسات الدولة السورية العظيمة المليئة بالعطاء والجدية وخدمة المواطنين، وربما بأجر ذلك اليوم وربما بالوظيفة المجزية تلك كلها “حيث يطرد من الخدمة فيها المعارضون للنظام” من أجل أن يشترك بالمظاهرات ليتقاضى الخمسين دولاراً تلك، بحيث ينتهي به المطاف في كثير من الأحيان في المقابر الجماعية وقد ألصق على جسده رقم “أو ما تبقى من جسده ” كنتيجة للترحيب الحار الذي يتلقاه في معتقلات النظام، والذي وفقاً لـ(السيد الرئيس) المفكر والفيلسوف لا تعذيب ولا اذلال فيها، فالمشرفون على السجون والنظام نفسه لا يمكن ان يقوموا بكل أنواع التعذيب المتضمنة (الشبح وهي الحالة التي يعلّق بها المعتقل من أطرافه ويتدلى جسده)، بالإضافة للصعق بالكهرباء، واستخدام الدولاب لتثبيت جسد المعتقل بداخله بينما يتعرض للضرب، والاغتصاب، ولا تجويع، ولا جلد ولا حرق ولا حتى نزع الأظافر والجلد بالكماشات، أبداً على الاطلاق، هذا لا يحصل في سجون النظام ، وكل تقارير أعرق المنظمات الحقوقية العالمية المتضمنة كل ذلك كاذبة، وكل شهادات السوريين وما شهدناه بالسنين التي مضت محض خيالات وأوهام و كذب، فالنظام ومخابراته لا يقومون بهذه الأفعال، فهم ليسوا ساديين لا يعانون من آفات نفسية وفقاً لما قاله الدكتور المفكر المقاوم الفيلسوف بشار حافظ الأسد والذي وقع بنفسه على أحكام المحاكم الميدانية بإعدام الآلاف من الشبان المعتقلين!
وللأسف فان الرقم الوحيد الذي يحمله المتظاهرون هو ليس الخمسبن دولاراً بالتأكيد، بل هو رقمهم في المعتقلات والتي يمنحهم إياه النظام كتعريف بدلاً عن أسمائهم والذي يحمله بعضهم ملصقاً على جبينهم إلى مثواهم الأخير في المقابر الجماعية بعد استشهادهم تحت التعذيب، رقم يرتبط أيضاً بسجل ممتلئ بآلاف الأسماء “ممن استفاد من منحة الخمسين دولاراً التي تحدث عنها الأسد الفيلسوف في مقابلته الأخيرة مع إحدى المحطات الحليفة له ولنظامه العتيد”!، والتي من أجلها يقرر المواطنون السوريون أن ينزلوا للمظاهرات، ومن أجلها أيضاً تراهم يرحبون بالاعتقال والتعذيب والإذلال والتجويع وصولاً للموت والدفن دون ضريح ولا اسم ودون وداع الأهل والأبناء والأسرة، والتي أيضاً بدورها قد يصيبها التشرد والأذى وتقضي عمرها وهي تبحث عن ابنها المفقود وتنتظر وتنظر حتى ترى اسمه مجدولاً كمتوفى ضمن قوائم قيد السجل المدني والمسلّم من الحكومة السورية ذاتها، والتي لا يمكن أن تعذّب المعتقلين وفقاً لتصريحات الرئيس الفيلسوف لدوائر السجل المدني بالمحافظات كمتوفيين في السجون من باب الصدفة البحتة، وربما من فرط البهجة التي يعيشون بها داخل المعتقلات وكل ذلك فقط من أجل الخمسين دولاراً تلك.
يصعب على بشار الأسد حتى اللحظة على ما يبدو تصديق حقيقة مفادها أن السوريين خرجوا إلى الشوارع لآنهم وصلوا إلى حد الاشمئزاز من هذا النظام الفاسد القذر والفاشي الذي يقوده، والذي ورثه بكل قذاراته عن أبيه الديكتاتور المؤسس لنظام القمع في سوريا مرتكب مجزرة حماة ومخترع منظومة سجن تدمر المروّعة وسجن صيدنايا، حيث تابع الأسد الابن نهج أبيه فيه بجداره واخترع آلافاً من مراكز الاعتقال والتعذيب وآلاف المجازر والمقابر الجماعية، وشرّد نصف الشعب السوري ودمّر البلاد كلها، ومع هذا نراه في كل مقابلاته التلفزيونية يضحك بكل بلاهة ويسرد الأكاذيب وبكل برود كقاتل متسلسل اعتاد ارتكاب جرائمه وبدأ يشعر باللذة من موت ودماء ضحاياه، بالتأكيد يصعب على ابن مؤسس نظام القمع في سوريا والذي تربى على أن سوريا هي مزرعة للعائلة الحاكمة، أن يفهم أن ما يزيد عن نصف قرن من الزمن من الحكم القمعي الفاسد هو وقت كافي للشعب السوري أن ينهض ويطالب بحقوقه وحريته وبرحيل هذا النظام، وأن ما دفع هذا الشعب للانتفاض ضده هو شعور حقيقي بالانتماء والمحبة للوطن، وانعتاق من الخوف وسطوة القمع، ورغبة في تحقيق فسحة أوسع للأجيال القادمة، حيث يمكن لهم أن يحلموا بحرية ويبنوا مستقبلهم ومستقبل أبنائهم بثقة، وأن يختاروا ممثليهم وأن يكونوا قيادين لبلدهم، قادرين فيه على الابداع والعطاء بكل حرية وكرامة وتحت سيادة القانون.
هذه هي الدوافع التي كان يحملها السوريون إلى الشوارع معهم في العام الأول للثورة، وهم يأخذون بعين الاعتبار أنهم قد يموتون من أجل لذلك، فسمو ونبل الهدف والدافع، ونشوة الانعتاق من الخوف، والتماهي بشارع الحرية، هي حالة روحية سامية لا يمكن لأمثال بشار الأسد أن يفهموها، هي عصية على إداركهم، لآنه وأمثاله صنيعة سلطة الخوف والقمع وهؤلاء لا يرون إلا أنفسهم، ولا يصدقون أن هذا الخوف والقمع الذي قبض على أنفاس السوريين لعقود يمكن أن ينتهي.
أخيراً.. لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نتوقع أن يفهم الأسد رغبة انعتاق السوريون للحرية، وأن يتفهم خروجهم للشوارع وحراكهم السلمي في عام الثورة الأول، مدركين أن ذلك الخروج قد يعني الموت أو التهجير أو الاعتقال، فكيف يمكن لمن يتلذذ ويضحك حين يتم سؤاله عن دماء ضحاياه، أن يفهم انعتاق الحالمين المؤمنين بوطن، وبكل من كسر حاجز الخوف والقمع وهما أبواه ومن صنعا كرسيه.. محال…!
المصدر: ليفانت