جسر: متابعات:
شكلّت الحرب في سوريا، وما تزال، إطاراً معقداً للتغيير المديني، ففي مقابل ظهور لاعبين جدد على الساحة، وتكّون ميليشيات طائفية ودينية وإثنية، كانت حواضر عديدة تشهد تدميراً كبيراً، أصاب تنظيم السكان والمكان ووسائل الإنتاج كذلك. وقد أدى هذا الأمر، بلا شك، إلى تأقلم الناس مع هذه الظروف؛ عبر الهروب والنزوح أو اللجوء إلى الريف أحياناً، أو أماكن ثانوية، ما خلق شكلاً ونوعاً جديدين من المدن السورية، تتكوّن من خليط من العادات والثقافات المحلية، غير أن ما حدث قد يحتاج لسنوات عديدة لفهمه، في ظل غياب الإمكانات البحثية واللوجستية، لدراسة تأثير هذا النزوح على الفضاء المديني السوري، وبالأخص ولادة وتضخم مدن وموت أحياء ومدن عديدة، رمزياً على أقل تقدير.
وفي ظل هذا الدمار، وكحال عدد من الدول التي عاشت حروباً طويلة، غدا ملف الإعمار المادي من الأولويات التي يجري الحديث عنها كثيراً. بيد أن ما يُلاحظ في هذا الحديث هو أن غالبية الدراسات المهتمة بهذا الشأن (خاصة على سياق المراكز البحثية السورية) عادة ما تنحصر أجنداتها البحثية بالشقين الاقتصادي والسياسي، في حين نادراً ما نعثر داخل هذه المراكز على أفكار لكيفية إعادة تحديث أو ترميم بعض الأسواق، التي هُدِمت أو مقاربة لمسألة إعادة إحياء الأحياء العشوائية، التي طالها التدمير الكبير في حلب أو دمشق مثلاً، في الوقت الذي يستكمل فيه النظام تهديم هذه الأحياء التي كانت تحيط بالعاصمة، بالشكل الذي يضمن عدم خلق حراك اجتماعي لعقود عدة، مع وجوب التذكير هنا بأن الاحتجاجات لا تنشأ في المناطق العشوائية، فهي ليست بالضرورة حاضنة الاحتجاجات، إلا أنه في حال دمشق مثلاً لا يمكن إنكار دور مناطق، مثل داريا والمعضمية وبساتين الرازي في المزة، في إشعال هذه الاحتجاجات.
وبالتالي يبقى الغائب في حوار السوريين، أو بالأحرى النخب المثقفة السورية، وجود رؤية حول شكل أو طريقة إعادة خلق هذه المدن.
قد يقول قائل إنه من المبكر الحديث عن الرؤية هذه، وعن افتقار لخبرات في التخطيط الحضري، غير أن ذلك لا ينفي ضرورة الخوض فيها من الآن، أو تشكيل رؤية ولو أولية في أي حديث عن مستقبل سوريا، وعدم الانتظار ريثما يتم الاتفاق على حل سياسي، خاصة أن هذه الحلول قد تأتي بخطط إعادة إعمار أكثر تطرفاً، كما حدث في مناطق عديدة من بيروت (رغم اختلاف حجم الدمار)، تتبنى فكرة تجهيز أبنية حديثة ذات وظائف تجارية وسياحية، وعلى حساب التراث وملاكي الأراضي القدامى والمستأجرين؛ ما يعني قبول التغيرات الاجتماعية وعمليات التهجير الجماعي وترسيخها في سوريا.
ربما كان من الواجب الدخول في هذه المقدمة، قبل العروج الأسبوعي المعتاد على كتاب جديد، وهو هذه المرة «المدن الميتة: نحو قراءة جديدة للتاريخ السوري» لناصر الرباط أستاذ الآغا خان للعمارة الإسلامية في «معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في كامبريدج». والمدن الميتة في الكتاب، هي عدد من القرى والبلدات التي تشكلّت بين القرن الثالث الميلادي والسادس الميلادي، قبل أن تتراجع لعالم النسيان، محافظة على وجودها المادي إلى حد ما، ليطولها الدمار والسرقة لاحقاً في الحرب، كما طال باقي المدن الحية في سوريا. كتاب رباط، وإن بدا مشغولاً بتاريخ المدن الميتة في سوريا، إلا أنه يشكّل خيطاً أو مدخلاً أولياً لكيفية التفكير بإعادة التخطيط لبناء بعض المواقع والأماكن، التي هدمتها الحرب، خاصة أن رباط لا يرفدنا بمعرفة غنية بتاريخ المدن المنسية فحسب، بل يتيح لنا من خلال بحثه في الأسلوب العمراني لهذه المدن، التعرّف على ذاكرة وإرث عمراني سوري، ليس بالمعنى الأيديولوجي الحزبي، وإنما بالمعنى الحضاري الذي بقي مستمراً في حياة العمارة الزنكية والأيّوبية، وحتى السنوات القليلة الماضية، إذ بقيت نسبة لا يُستهان بها من حجاري القرى المنسية تعمل في حلب وغيرها من المدن السورية، كما شارك قسم كبير منهم في إعادة إعمار وسط بيروت في تسعينيات القرن الماضي.
وبالتالي فإن الرباط بتعريفه بتاريخ هذه المدن السورية المنسية أو الميتة (كما اصطلح على تسميتها بعض الباحثين الغربيين) وأسلوب بنائها وهندستها، وكيفية إعادة ترميمها وإحياء دورها، لا يروم فقط حمايتها من أن تتحول إلى متاحف للسياحة والاستثمار، ولو كان ذلك على حساب الأشكال الأصلية وروح المكان، بل قد يوفّر مخططاً أولياً ومدخلاً لطريقة التفكير بكيفية بناء المجال العام، لمدن ما بعد الحرب. ولعل ما يدعم هذا الكلام، إعادة الرباط لإصدار كتابه بعد مراجعته وإضافة ملاحظات جديدة مؤخراً، بعد أن صدر بنسخته الأولى في عام 2010، وهي الفترة التي كانت فيها الشبكات الاقتصادية الجديدة في سوريا تقضم كل شيء في البلاد بأسلوب مافيوي.
ولكن ما هي المدن الميتة؟
يحاول الرباط في بداية كتابه تعريفنا بطبيعة وطوبوغرافية هذه المدن. فهذه الأماكن الميتة هي عبارة عن قرى أو أماكن تنتشر على المحاور المؤدية من العاصمة القديمة أنطاكية إلى حلب وقنسرين التاريخية، شرقًا وشمالًا، وإدلب ومعرّة النعمان جنوبًا وغربًا. وتتوزّع هذه القرى، الواقعة بمعظمها في محافظتي حلب وإدلب اليوم، بشكل رئيسي على ثلاث مجموعات هضابية متوسِّطة الارتفاع. يقدر عددها بين 780 و820 موقعاً مهجوراً أو أعيد سكنه. ويؤكّد الرباط أن الكشوفات الأثرية استطاعت تحديد أسماء 200 موقع من هذه الأماكن وأهمها براد، برج حيدر، خراب شمس، كفر نابو، دير سمعان، ودانا الجنوبية في جبل الزاوية.
أما على الصعيد العمراني لهذه القرى، فيبين الرباط أن بناء هذه المدن لم يكن يبدأ عادة بموقع كامل ومحدد، أو مسوّر أحياناً، كما في حال المدن المؤسّسة في العهد الروماني، بل كانت هذه المواقع القروية تنشأ عبر بناء مجموعة من البيوت المتقاربة لأفراد أسرة واحدة، وتنمو بنموّ سكّانها واستقطاعهم مزيدًا من الأراضي لإيواء عائلاتهم الجديدة، المتفرّعة عن العائلة الأصلية، أو تلك التي جذبها الموقع أو النشاط القائم فيه لحطّ عصا الترحال هناك. ولا يقتصر اختلاف هذه القرى المنسيَّة عن النموذج العمراني الهيلينستي، والروماني اللاحق عليه، على مخطّطاتها العامّة، بل يتعدّاه إلى نوعية المباني الموجودة فيها وعمارتها وزخرفها ومدلولاتها الاجتماعية والثقافية والسياسية، وإلى علاقة الحيّز الخاصّ بالعامّ فيها، وتراتبية هذه العلاقة، الأمر الذي يعطيها خصوصيّة عمرانية واضحة وإيحاءً بتواضع سكّانها الاجتماعي وربما بقلّة الفروق الطبقية بينهم، أو على أقلّ تقدير بتواصل مجتمعاتهم بين الفقير والغنيّ منهم، بما أنّهم كانوا عمومًا من خلفيّات اجتماعية ومهن متقاربة. كان في كلّ موقع في القرى المنسيَّة مهما صغر، مع بعض الاستثناءات القليلة، كنيسة أو أكثر، ما يؤكّد أهمّية الدين في حياة سكّان هذه القرى البيزنطية.
اعتمد سكّان القرى المنسيَّة في جبل البلعاس على زراعة الحبوب في السهول والوديان وزراعة الزيتون والكرمة ورعي المواشي من أغنام وماعز، بالإضافة إلى صناعة الزيت والنبيذ والاتجار بهما لمسافات بعيدة، وقد ارتبط هذا النموّ الاقتصادي المرن والمتكيّف بصعود طبقة جديدة من المزارعين الصغار ومتوسِّطي الثراء، من خلفيات إثنية مختلفة ومختلطة، بيد أن انعزالها النسبيّ عن مراكز الحضارة الكلاسيكية الكبيرة، خفّف من تأثّر تغيّر الأذواق والموضات في المحيط الإمبراطوري الأوسع في عصر ازدهارها على نشوء وتطوّر طرزها المحلّية، ما جعل منها نموذجاً مثالياً تقدّم لنا النموذج الأمثل لاستشفاف فكرة الهجانة الخلّاقة نفسها، المبنية على فكرة التواصل والتقاطع ما بين الذوق المدني والإمبراطوري المهيمن، والأذواق المحلية. ولذلك يرى الرباط أنّ مفهوم المركز والأطراف الذي ساد في دراسات التاريخ بشكل عامّ، والذي قدّم تفسيرًا أحادي الاتجاه لنشوء ونموّ الطُرز والموضات، على أنّها تنبع من المركز ثم تنتشر في الأطراف، حيث تُقتبس وتُقلّد أحيانًا بدقّة وأحيانًا كثيرة بدقّة أقلّ، يمكن تحدّيه عبر طرح مفهوم الهجانة كمفهوم عامّ لفهم كلّ تطوّر لأيّ خلق فنّي، بغضّ النظر عن موقعه على التراتبية الطرازية أو الجغرافية، أو بُعده أو قُربه من المركز. قد تذكرنا هذه الرؤية التصالحية، حيال العلاقة بين المحلي والعالمي، ورغم تباعد الأزمنة المدروسة، بخلاصات مؤرخ العمران ستيفان ويبر في كتابه «دمشق: الحداثة العثمانية والتحول العمراني 1808ـ 1918»، التي وضع فيها التطور العمراني الذي عرفته دمشق آنذاك تحت إطار ما سماه «بالحداثة المتشابكة»، الذي يرى أن التحولات الحداثية، أي التغيرات التي نقلت المجتمع والمدينة من الوضع القديم إلى الوضع الحديث، قد جرت ضمن سياقات تاريخية وثقافية متشابكة ومتداخلة على الصعيدين المحلي والعالمي.
إعادة الإعمار ونموذج المدن الميتة:
وبالعودة إلى كتاب الرباط، وبالأخص فصوله الأخيرة التي قدم فيها عدداً من الاقتراحات والمخططات الأولية، لكيفية إعادة إحياء وترميم المدن الميتة في سوريا، ربما هناك نقطة استوقفتني من بين نقاط عديدة ذكرها، وقد تكون لها علاقة بشكل أو بآخر بموضوع المدن الحية السورية التي دُمِّرت.
تتعلق هذه النقطة بدور الأهالي في عملية إحياء هذه المدن الميتة. إذ يرى رباط مثلاً أن على أي برنامج لإعادة إعمار المدن أن يتماهى مع مستلزمات ومشاعر سكان المنطقة، تكون مهمته خلق شعور بالانتماء لقراهم ومدنهم، وضرورة الحفاظ على روحها التاريخية، ورغم أن الرباط يتطرق في هذا الموضوع للمدن الميتة، كما أسلفنا القول، بيد أن في إشارته الكثير من الفائدة في ما يتصل بموضوع المدن والأحياء التي هدمتها الحرب في سوريا. فإعادة إعمار الأحياء لن يتم بالشكل الصحيح، بدون أن يكون هناك دور لأهالي هذه المناطق، ورغم أن هذا المطلب قد يكون مثالياً ولا يتطابق مع تجارب إعادة الإعمار التي شهدها عدد من بلدان العالم، لكن لابد من المحاولة للحفاظ قدر المستطاع على روح العديد من المناطق التي هُدمت، ومن المتوقع أن يُعاد بناؤها في السنوات المقبلة. قد لا يستطيع دور الأهالي ورأيهم في إعادة إعمار مدنهم التي هُدمت، التعبير عن نفسه اليوم، من خلال جمعيات ومنظمات في الداخل بالأخص، غير أن بعض صفحات التواصل الاجتماعي والمواقع الخاصة بنشر صور لسوريا من بدايات القرن العشرين لفترة السبعينيات، والإقبال الكبير عليها على صفحات التواصل، قد يشي بشكل أو بآخر ببداية تشكّل رؤية ووعي لدى قسم من السوريين بشكل مدنهم في المستقبل. وبالتالي فإن نشر هذه الصور والاهتمام بها لا يعكس، كما يؤكد الأنثروبولوجي الهندي أرجون أبادوري، حنيناً وهروباً من الحاضر، بل يقدم لنا خريطة للتغلب على العقبات والتفاوض حول شكل المدن ومستقبلها.
هذا الاهتمام السوري بعالم صور الستينيات قد يشابه ما عاشته بيروت بعد الحرب ومشاريع إعادة الإعمار. إذ لاحظ كل من الأنثروبولوجي الفرنسي تييري بواسيه واللبناني جميل معوض، في مقال لهما حول بيروت، ظاهرة لجوء أهالي المدينة في السنوات الأخيرة إلى خلق فضاءاتهم الافتراضية الخاصة، عبر مشاركة صور لبيروت قبل الحرب (صور فوتوغرافية من الأرشيف، وبطاقات بريدية)، تعرض حكايات عن النزهة القديمة التي كانت تحصل في المدينة. ووفقا للباحثين، لا يعكس هذا السلوك بعداً حنينياً لبيروت، بل رغبة في الدفاع والحق في الحلم (شكل المدينة) بدون، الحاجة إلى تغيير الواقع الحضري رأساً على عقب، وإنما إعداده وتكييفه، عن طريق ما هو موجود، والمحافظة على ما تبقى، كل ذلك بالتواصل مع الناس وممارساتهم وتصوراتهم. وبالتالي فإن تداول السوريين لصور مدنهم، قد يعد جزءاً من بداية تشكل وعي مجتمـعي حول مدنهم، أو حول كيف يجب أن تكون عليه مدنهم التي دُمِّرت وأسلوب إعادة إعمارها، وهو ما يتطلب اليوم مزيداً من تنمية هذه المواقف والمبادرات وإنشاء جمعيات ومراكز تساهم في خلق هذا الشعور بضرورة المشاركة، سواء أكانت هناك، رغبة في أجندات وخطط الدول الداعمة والمنفذة للإعمار أم لا.
القدس العربي 31 آب/أغسطس 2019