جسر: متابعات:
أثار إعلان تشكيل اللجنة الدستورية وأسماء أعضائها ردود فعل متشنجة في صفوف قوى المعارضات السورية، جسّدتها حملات نقد للائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة وهيئة التفاوض وللشخصيات التي رُشحت لتمثيل المعارضة في هذه “اللجنة”. وقد تجاوزت حملات النقد والتقويم حدود النقد الموضوعي إلى التشهير والتخوين المبطن والصريح، في تعبيرٍ واضح ومباشر عن حالة البؤس السياسي الذي تعيشه هذه المعارضات، برموزها ومثقفيها.
ليس النقد الموجه إلى اللجنة الدستورية، في مبناها والقواعد الناظمة لعملها، هو المشكلة، فالجزء الأعظم من الملاحظات التي قيلت صحيح ومنطقي، لكنها قيلت في توقيت خاطئ، فغدت غير ذات شأن. لقد بدأ العمل على تشكيل اللجنة الدستورية منذ قرابة العامين، وكان قرار العمل على تشكيلها مناقضا مناقضةً صريحة قرار مجلس الأمن رقم 2254 ببنوده التي شكلت خريطة طريقٍ لحل سياسيٍّ توافقي بين النظام والمعارضة، تبدأ من تشكيل هيئة حكم انتقالي، لتنتهي بانتخاباتٍ رئاسيةٍ وبرلمانيةٍ مرورا بالإفراج عن المعتقلين، والكشف عن مصير المفقودين وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية إلى مستحقيها وإعادة هيكلة الجيش وأجهزة المخابرات في مرحلة انتقالية محدّدة المدة. المشكلة هنا تكمن في السماح بالقفز عن هذا المخطط بتقسيم ملف الحل السياسي إلى أربع سلال، والقبول بالعمل على سلة واحدة منها، هي سلة الدستور، مع أن المنطقي البدء بسلّة هيئة الحكم الانتقالي. لذا يمكن القول من دون تردّد إن توقيت توجيه النقد لا يكشف عن ضعف الحساسية السياسية لدى المعارضات السورية فقط، بل وعن عدم وجودها أصلا، فمقدمات تشكيل “اللجنة” كانت حاضرة بقوة ووضوح، والنتيجة، مبنى “اللجنة” وقواعد عملها، كانت تتحدّد خلال المشاورات والمواقف المعلنة من النظام وحلفائه، منذ شهور طويلة، وتم التعامي أو التغاضي عن السياق، وكأنه غير ذي شأن أو تأثير على مصير العملية السياسية ونتائجها المنتظرة. ولمّا جاءت النتيجة المرجّحة، تم الانقضاض عليها وكأنها هبطت من المجهول من دون مقدمات أو مؤشرات سابقة؛ كاشفا عن حالة تأخر سياسي مدمر، ينطبق عليها المثل الشعبي “رايح عالحج والناس راجعة”. كان المنطق السياسي يقتضي من المعارضات، قادتها ومثقفيها، الاعتراض على قرار إعطاء أولوية لسلة الدستور وفتح باب الهروب من مندرجات القرار الأممي رقم 2254، والإصرار على أولوية تشكيل هيئة الحكم الانتقالي، والتي من صلاحياتها وضع الدستور خلال المرحلة الانتقالية المحددة؛ وتشكيل “اللجنة” عبرها، والعمل على وقف مسارٍ لا يقود إلى تحقيق ولو جزء يسير من مطالب التغيير السياسي، وتحريك قوى المعارضات، كوادرها ومثقفيها، وحواضن الثورة وحلفائها وأنصارها، لوقف مسارٍ نهايته السلبية مكشوفة بوضوح يفقأ العين. لذا يمكن اعتبار الاعتراضات الحالية لعبا في الوقت الضائع، لا تغير شيئا.
كشفت ملاحظات المعارضات السورية، ومثقفيها، التي ساقتها عن المخاطر التي تنطوي عليها بنية اللجنة الدستورية وقواعد عملها والنتائج الكارثية التي ستنجم عنها، عن مؤشراتٍ إضافيةٍ دالة على بؤسها السياسي والعملي، وعن العقلية التي تحكم عملها، رؤاها وتقديراتها وقراراتها. ملاحظات تتعلق بالأعراض، لا بالجوهر، تنصب على ما ترتب على الخطأ الأول: القبول بتجاوز تشكيل هيئة الحكم الانتقالي والمرحلة الانتقالية بمراحلها ومهامها؛ وصب جام غضبها ونقدها على “الائتلاف” وهيئة التفاوض، وليس على الخطأ الأصلي، وعلى القوى التي دفعت نحو هذا الاختراق الخطير، والتفكير والعمل على تصويب المسار بطرق عملية، فالملاحظات المساقة عن تركيبة “اللجنة”، عدد الموالين للنظام وحلفائه في “اللجنة” والمجتمع المدني، وآلية إقرار الاتفاقات، حصول القرار على 75% من أصوات “اللجنة” الموسّعة، أي 113 من أصل 150 أو 34 من 45 من اللجنة المصّغرة، وميلهما لصالح النظام، ملاحظاتٌ تعكس عدم إدراك طبيعة الخلل والاختراق الذي نجح النظام وحلفاؤه في تحقيقه، منذ إقرار إعطاء أولوية لسلة الدستور، والعمل على تشكيل اللجنة الدستورية. يمكن إضافة عيّنة أخرى على البؤس السياسي الذي تعيشه المعارضات السورية من خلال استعراض النقد الذي وجه إلى مبادرة إعلان سورية دولة اتحادية؛ حيث اعتبرت الملاحظات المبادرة دعوة إلى تقسيم سورية وتبرير دعوات الانفصال عنها، قارنها أحدهم بتقسيم سورية إلى أربع دول إبّان الانتداب الفرنسي على سورية عام 1920، علما أن الدولة الاتحادية موحدة، تعمل على قاعدة توزيع الصلاحيات والإدارة، لتوسيع المشاركة الوطنية في اتخاذ القرارات المحلية، مع الإبقاء على السيادة مركزية من خلال التمثيل الدبلوماسي والسياسة الخارجية والدفاع، ولا يمكن اعتبار الدعوة إليها دعوةً إلى التقسيم وتبرير الانفصال بأي حال.
لقد فات أوان نقد اللجنة الدستورية، بنيتها وقواعد عملها، بعدما غدت حقيقة سياسية قائمة، تحظى بمباركة إقليمية ودولية، وباتت المهمّة الجوهرية للمعارضات محدّدة في خيارين لا ثالث لهما: إقناع وفد المعارضة بالانسحاب من العملية ووقف السير في طريق نهايته غير مضمونة النتائج؛ والمطالبة بالعودة إلى خريطة الطريق التي حددها القرار الأممي 2254، وبقية القرارات الدولية المتعلقة بالصراع السوري، وهو خيارٌ بعيد الاحتمال في ضوء القيود التي تحكم حركة هيئة التفاوض وقدراتها على كسر الطوق وتحدي الضغوط الإقليمية والدولية، أو العمل على تشكيل ظهير سياسي ميداني لوفد المعارضة في “اللجنة” يقدّم له النصح السياسي والخطط والمقترحات خلال مراحل التفاوض، عبر مركز تفكير أو أكثر تشكله هذه المعارضات، وتشكيل خلية أزمةٍ مع هيئة التفاوض لمتابعة تطورات عملية التفاوض، والدفع نحو فتح باب التفاوض على بقية السلال، وتنفيذ مندرجات القرار الدولي المذكور، خصوصا ملف المعتقلين والمفقودين وإعادة هيكلة الجيش والمخابرات، والتمسّك بصيغ دستورية تقود إلى فتح باب التغيير الديمقراطي، فآلية إقرار الاتفاقات قابلة للتوظيف في خدمة موقف وفد المعارضة كذلك، وعقد ندواتٍ سياسيةٍ بالتوازي مع مراحل التفاوض، تظهر التمسّك بالأهداف، وتجدّد الدعم للإصرار عليها على طاولة التفاوض، وإرسال رسائل مباشرة إلى الأمم المتحدة والدول المؤثرة في الملف السوري بهذا المعنى، وتعزيز مواقف الوفد بتحرّكات شعبية مساندة عبر تجمعات جماهيرية: اعتصامات وتظاهرات، والعمل، في الوقت نفسه، على بدائل سياسية وتنظيمية، على خلفية احتمال فشل المفاوضات أو انتهائها إلى نتائج غير مقبولة.
لقد خسرت هيئة التفاوض معركة التمسّك بآليات الانتقال السياسي، وبقي ألا تخسر الحرب على طاولة التفاوض بالقبول بصيغ دستورية، تعيد إنتاج الاستبداد وتكرس قواعده؛ وابتلاع الطعم بالمشاركة في مخرج سياسي مزيف، يقضي على ما تبقى من تطلع للتغيير، وأمل في إنجاز بعض قواعده. وهذا ما يجب العمل عليه سياسيا وميدانيا بشكل مدروس، ومنسق، ومخطط له، عبر عمل جماعي منظّم.
العربي الجديد 2 تشرين اﻷول/أكتوبر 2019