“عندما شعرت بالانفصال عن محيط كامل، أم أب إخوة أقارب آثرت الهروب، بحثاً عن عالم ربما يستطيع تقبل وضعي، بحثت على مدار عامين عن بلد حاولت أن يكون وطناً لي، وأشخاص قد يشكلون أسرة لي، لا أعلم إن نجحت أو فشلت فهل هذه الأشياء قابلة لإعادة التكوين من جديد، أم مجرد محاولة للالتفاف على واقع مرير أسعى لتجاوزه”.
رهف الآن في التاسعة والعشرين من العمر، مضى على خروجها من الاعتقال ثلاث سنوات، لا تعرف إن كانت تلك الفترة الأسوأ من حياتها، أم ما سيأتي، فقد توقف الزمن بالنسبة لها منذ سنوات والقادم مجهول.
تروي رهف قصة اعتقالها فتقول”بدأت القصة منذ حوالي خمس سنوات، وكأي سوري يملك ضميراً لم استطع أن أقف مكتوفة الأيدي تجاه ما يحصل لأبناء بلدي وخاصة المهجرين في ريف دمشق، كنت أقوم بالتنسيق مع صديقات لي بجمع تبرعات وتقديم مساعدات من مواد غذائية وأدوية، فكانت تهمتي الوحيدة أني ساعدت الناس، وهذا ما تربيت عليه، ولم أتعلم يوماً في مدارس النظام أن المساعدة والرفق بالآخرين سوف يكون سبباً لإعتقال الإنسان وإهانة كرامته”.
كانت رهف تعمل بشكل سري خفية عن أهلها الذين كانوا يخافون من أي شئ ولا يريدون إلا أن يعيشوا حياة آمنه سواء بقي النظام أم تغير، وبحجة عملها في مصنع للألبسة بريف دمشق كانت تخرج من المنزل وتعود إليه وكأنها كانت في عملها “طلبت من صاحب العمل أن أقلل عدد ساعات عملي ليتسنى لي القيام بواجبي الطبيعي تجاه إخوتي وأبناء بلدي، وهذا ما أتاح لي العمل بقدر من الحرية”.
لم يحالف الحظ رهف، فأثناء اجتماعها بصديقاتها في منزل بريف دمشق تمت مداهمة المنزل من قبل قوات الأمن، واعتقال من كان فيه، وترجح رهف أن يكون تم التبليغ عن ذلك المنزل، نظراً لأنهن كن يجتمعن فيه بشكل متكرر، وتم اقتيادها إلى فرع الأمن العسكري، الذي بقيت فيه ثمانية أشهر، تقول رهف “كوني تعلمت أن الكذب لا ينجي قلت الحقيقة، اعترفت بكل شئ وأعتقد أنه لا فرق بين من يعترف ومن ينكر ففي الحالتين يتعرض للتعذيب، وجهت لي تهم كثيرة ومنها تسليم ضباط لعناصر من الجيش الحر وهذا ما أنكرته وبالفعل لم أقم بهكذا أعمال، فتم ضربي بأرجل المحققين وبالعصي، وتعرضت للشبح، كانت ايام قاسية لا أريد تذكرها، شعرت أني سأموت في تلك الزنزانة المظلمة، إلى أن جاء ذلك اليوم واستدعاني المحقق وأخبرني أنه ما تمر به البلاد عبارة عن مؤامرة وأنه تم التغرير بي لم أرد حينها، إذ وصل بي الأمر بأني إن تكلمت سأنفجر بوجهوهم وأشتمهم فقررت الصمت”.
أطلق سراح رهف بعد وساطات قامت بها عائلتها مع بعض الضباط، وبعد أن دفعوا مبلغاً من المال، وبخروجها “يا ليتني لم أخرج، في الزنزانة كنت وحدي، والفرق الوحيد أني خرجت إلى منزل ولكني كنت وحدي في كل لحظة لم يسألني أحد ماذا حدث معك، لم ألام لما قمت به، دخلت منزلي وكأني غادرته البارحة، جاء أقارب وكأنها زيارة عادية، ولكنهم طووا صفحتي خوفاً على أنفسهم مني، قالوا حمدلله عسلامة وأكملوا حديثهم، كنت على معرفة بشاب قبل اعتقالي وبخروجي لم يسأل عني حتى”.
تتابع “تعاملت معي عائلتي وكأنني مذنبة وعلي تحمل نتيجة افعالي، وهم قاموا بواجبهم تجاهي عندما دفعوا نقوداً ثمناً لحريتي، التزمت المنزل لم أر أحد، في غرفة وحدي أشبه بالزنزانة التي كنت بها، إلى أن قررت الرحيل، أريد وطناً عائلة مجتمعاً، فقدت كل شئ، وإلى الآن لم أجد شيئاً”.
تعيش الأن رهف في مدينة بتركيا في غرفة صغيرة تدفع إيجارها من خلال عملها برعاية أطفال الجوار، هناك تعتبر نفسها بدأت حياة جديدة إلا أنها تهرب من أي محاولة للتواصل مع ذويها ومجتمعها، “عندما خرجت من سورية قررت أن أقتلع الجذور التي تربطني بها، فالوطن غال، هذا صحيح ولكن المجتمع يشكل الجزء الأكبر منه، وعندما يرفضني لن أجد مفراً من الهرب”.