جسر: مقالات:
يئس والد أحد قادة «الإخوان المسلمين» من إمكانية عودة ابنه إلى سوريا فقرر بيع مكتبته الكبيرة التي لم تكن، في نظر الأب العادي، أكثر من عبء يجري نقله بحذر من مكان إلى آخر، أو مبلغ معقول يعينه على مواجهة صروف الحياة. أما الكتبيّ المحترف الذي اشتراها، جملة، فلم يحتج سوى إلى بضع اتصالات كي يشيع الخبر بيننا، نحن هواة الكتب، ونسارع للوفود عليه طمعاً في العثور على كتب نادرة نبحث عنها منذ زمن.
لم تخيّب المكتبة الغنية ظننا ولم نخيّبها. فأصبحت، خلال أيام، أشبه بهيكل عظمي لكائن خرافي هائل تناوبت على التهامه آساد وثعالب. كنت أجول في أرجاء الوليمة للمرة الثالثة، بحثاً عما يمكن أن أكون قد غفلت عنه وأهمله الجميع؛ عندما انتبهت إلى وجود دفاتر متناثرة لم يبرز حضورها في زحمة الكتب سابقاً. جمعتها فشكّلت عموداً متوسط الطول لم يثر اهتمام الكهل الحاذق فباعني إياها بسعر زهيد.
كما يتوقع «هواة النوع» كانت الدفاتر أهم من الكتب. وقد حوى بعضها تحضيرات صاحبها للمناهج المختلفة التي كان يدرّسها بوصفه معلماً، فيما ضم قسم منها تلخيصه وملاحظاته عن كتب كان يقرؤها، مع تواريخ وأمكنة كان بعضها سجوناً، قبل أن تتحول المعتقلات السورية إلى مسالخ حصدت أرواح كثيرين كان من بينهم مؤلِّف إسلامي عثرتُ على كتيِّب كامل له غير منشور في أحد الدفاتر، يبدو أنه أعطاه لصديقه لإبداء الرأي، ووقعت الواقعة.
في الأوراق الأخيرة لبعض الدفاتر مسودات رسائل كان بعضها مفيداً أكثر من قراءة بحث عن المرحلة. وعلى إحدى الصفحات كتبت ابنة القيادي، التي استنتجت أنها كانت وقتها، عام 1979، طالبة في الثانوية، رسالة قصيرة لحافظ الأسد تناشده فيها الإفراج عن أبيها، الذي كان سجيناً آنذاك، بلغة لطيفة وبوصفه أبا الجميع في الوطن وصاحب القلب الكبير. على الوجه الآخر للورقة كتبت الفتاة مسودة رسالة طويلة موجهة لأبيها، في الوقت نفسه، بدأت بعبارات من نوع: أبي الحبيب المجاهد وإخوانه الأبطال الأسرى في سجون طاغية الشام…
كان أمراً مضحكاً، ومؤلماً، ومفهوماً بالطبع. غير أن ما يصح في حالة فتاة فاقدة في الثانوية ينبغي ألا يصبح نهجاً عاماً يشمل ناشطين ومنظمات. إذ يمكن للمرء أن يلحظ نشأة النزعة إلى تبرئة المعتقلين التامة، لدى ذويهم ومحيطهم والمطالبين بهم، منذ مطلع عشرية الثمانينيات السوداء.
وفي هذا الصدد تمكن ملاحظة أن ذلك قد تأسس على العنف المنفلت للسلطة التي لم تعد تميز، عملياً، بين مسلّحٍ وسلميٍّ وصديق… إلخ. وصار هدفها تشكيل المواطن المعقّم كلياً من السياسة، وهو ما صار المعتقلون وذووهم يزعمونه لأنفسهم وأحبائهم. بالإضافة إلى عامل آخر أقل أهمية يمكن ردّه إلى المراوغة الإخوانية العريقة التي تبرز في سنوات محن الجماعة بشكل خاص، لا سيما أن أكثر معتقلي تلك المرحلة كانوا منها ومن بيئاتها.
غير أن النتيجة كانت كاريكاتيرية، كما يحدث في ظل الطغيان. فالسلطة، التي كانت تسعى للقبض على الإخوان المسلمين وقتها، لم تعتقل، من وجهة نظر مجتمع الأهل، سوى عشرات ألوف من الأبرياء الذين صادف مرورهم بجوار «الأحداث» بصورة أو بأخرى، فيما تبخّر الفاعلون الحقيقيون بقدرة قادر! وكذلك فإن السلطة الوريثة التي كانت تلاحق الجهاديين في العشرية الأولى من حكم بشار الأسد لم تعثر، وفق بيانات منظمات حقوقية ومدافعين معتبرين عن المعتقلين، إلا على طالب هنا وموظف هناك ومزارع آمن وعائد غافل يحمل كتباً وسيديات عبر الحدود.
ومن اللافت أن هذه الشريحة نفسها من ناشطي المجتمع المدني، ممن كانوا يعتصمون أمام محكمة أمن الدولة العليا تلك السنوات؛ هم الجو الثقافي والسياسي الذي أسس لتجريم وإدانة «سجناء صيدنايا» في ما بعد، بوصفهم حصان طروادة الذي استطاع النظام عبره أسلمة الثورة وعسكرتها.
ولا يحتاج الأمر سوى إلى مراجعة بيانات المنظمات الحقوقية والمحامين الذين نشطوا في تلك السنوات، وأسماء المعتقلين الإسلاميين الواردة فيها، ليعرف أنهم أنفسهم سجناء صيدنايا المدانين لاحقاً بأثر رجعي، بعد أن قُدِّموا كمجرد موقوفين أبرياء عند اعتقالهم، ومحاصرين مضطهدين أثناء استعصاء 2008 الذي صار يُنظر إليه الآن بوصفه تدريباً مبكراً على التطرف!
لا يهدف هذا المقال إلى تبني أيٍّ من التصورين حول سجناء صيدنايا، المظلومين في 2006 وما حولها، وشياطين اللعبة في 2012 وما بعدها. لكنه يريد أن ينبّه إلى خطر تحول المجتمع المدني إلى أمهاتٍ لأولاد مطهرين أفسدهم آخرون، كما إلى بؤس انحدار المجتمع الأهلي إلى حالة الخلد الذي لا يطمئن إلا عند العيش في الجحور، لحماية أحبائه من المعتقلين الذين لا يُفرَج عن سيَرهم، المبالغ في بطولاتها المزعومة، إلا عند مقتلهم. مما يجعل رسم صورة أي من هؤلاء السجناء أمراً عسيراً وسط أكوام منافقة ومتناقضة من الأكاذيب.
موقع تلفزيون سوريا ١٩ تموز/ يوليو ٢٠٢٠