جسر: رأي:
المباحثات الكردية-الكردية، أو بتعبير أدق المفاوضات بين حزب الاتحاد الديمقراطي-الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، والمجلس الوطني الكردي، مستمرة ولم يتم التوصل حتى الآن إلى أي اتفاق معتمد من قبل الطرفين، رغم التسريبات التي ظهرت، وتمحورت حول اتفاق سياسي مبدئي.
فهناك قضايا كثيرة لم تناقش بعد، وأخرى لم يتم التوافق عليها حتى الآن، رغم الجهود الأمريكية والفرنسية التي تبذل من أجل التقريب بين وجهات النظر المتباعدة حول قضايا عدة متباعدة، منها قضايا الإدارة والأمور المالية، والجانب العسكري، وقضية المعتقلين. وهي تحتوي على الكثير من التفصيلات الدقيقة ليس من السهل التوافق عليها، والالتزام بما تم الاتفاق عليه. خاصة أن التجارب السابقة التي كانت، سواء مع حزب العمال الكردستاني، أم مع حزب الاتحاد الديمقراطي أكدت باستمرار عدم التزامهما بتعهداتهما التي غالباً ما تكون وسيلة للخروج من مأزق ما، أو استجابة آنية سطحية لضغوط مفروضة، أو الالتفاف على توجهات الحاضنة الكردية. وفي الحالة الأخيرة هناك الضغط الأمريكي إلى جانب المطلب الشعبي.
فحزب العمال الكردستاني، اعتمد منذ بداية انطلاقته في عام 1978 أسلوب التفرّد في القرار، وعدم القبول بالشركاء النديين، بل اعتمد أسلوب شيطنتهم، وتخوينهم؛ ومارس كل الأساليب بهدف تغييب المعارضين، سواء من أعضائه أم من أعضاء الأحزاب والقوى السياسية الأخرى.
دوافع الأطراف المشاركة في العملية التفاوضية الجارية حالياً مختلفة، رغم الحرص الظاهر على وحدة الصف الكردي. فحزب الاتحاد الديمقراطي يرى في هذه المفاوضات وسيلة لتخفيف الضغوط الشعبية التي تتزايد عليه يوماً بعد يوم. فهناك حالات تذمر متنامية من سوء إدارته، ومن الفساد المستشري فيها على جميع المستويات. ولم تعد ورقة محاربة الإرهاب تقنع الناس الذين باتوا على يقين بأن قضية الإرهاب بصورة عامة كانت فزاعة مخابراتية.
بالإضافة إلى ما تقدم، هناك كوادر سورية، خاصة في القيادات العسكرية، لها جهود كبيرة في مسيرة حزب العمال الكردستاني، وهي متواجدة اليوم في الساحة الكردية السورية، تشهد الوقائع وتعقيداتها، وتتفاعل مع الناس، وتطلع بصورة مباشرة على ما يجري؛ وهي على معرفة بمواضع الخلل، وتدرك ما هو المطلوب. كما تدرك أيضاً أن القيادات المستقرة في قنديل لها مشاريع أخرى، وقد اتخذت من الكرد السوريين مخرجاً لتفادي الآثار السلبية الناجمة عن اخفاقاتها المريعة في الساحة الكردية في تركيا.
وربما كانت تلك القيادات تراهن على الحسم السريع، وعلى التنسيق المستمر مع النظام والإيرانيين. ولكن الذي حصل هو عدم الوصول إلى حل شامل للموضوع السوري، الأمر الذي فتح المجال أمام مختلف الاحتمالات. وفي هذه الأجواء تشكلت “الإدارة الذاتية” بتعقيداتها التي تعكس واقع المنطقة المعقد في منطقة الجزيرة التي ما زال النظام بقواته وإداراته متواجدا فيها، وهناك قواعد للروس، وأخرى للأمريكيين. كما أن تركيا قد دخلت على الخط وسيطرت على العديد من المناطق.
من جهة أخرى لا بد أن نأخذ تطورات الموقف الأمريكي من الوجود الإيراني في سوريا بعين الاعتبار، وهو موقف يتناغم إلى حدٍ بعيد مع الموقف الإسرائيلي.
كل هذه الأمور، وغيرها، ربما لم تكن في حساب قيادة حزب العمال الكردستاني في قنديل، لذلك فهي اليوم أمام موقف أقل ما يُقال فيه، أنه غير مريح بالنسبة إليها، ولذلك فهي ستعتمد على الأغلب أسلوب المماطلة، وكسب الوقت، وإفراغ كل الاتفاقيات التي قد يتم التوصل إليها، من مضامينها.
أما القيادات الكردية السورية في الحزب المذكور فهي في بيئتها السورية على علاقة مع مختلف المكونات السورية. وتتعرض لضغط شعبي كي تتحول إلى جزء متكامل مع الحالة الكردية السورية. وبالتوازي مع ذلك، هناك عوامل كردستانية، وإقليمية، ودولية، تشجعها على ذلك، حتى لا تعتبر قوة دخيلة وافدة، تنفذ أجندات لا علاقة لها بمصلحة الكرد السوريين، والسوريين عموماً.
أما المجلس الوطني الكردي، فهو من جانبه يسعى لتفعيل حاضنته الشعبية التي أصبحت خاضعة لحكم “الإدارة الذاتية”. وباتت قياداته، ومكاتبه مشاريع حظر ومنع وطرد. وقد استطاع حزب الاتحاد الديمقراطي بفعل الدعم الذي حصل عليه، وامكانياته التنظيمية، ونتيجة الخلافات البينية بين الأحزاب الكردية السورية، من إحداث شروخات كبيرة، سواء ضمن الأحزاب نفسها، أو ضمن المجلس الوطني الكردي نفسه، حتى باتت العديد من الأحزاب الكردية وجهاً تابعاً من أوجه الإدارة الذاتية.
أما السؤال الأهم الذي يخص المفاوضات المعنية هنا فهو يتمحور حول بواعث الموقف الأمريكي وتطلعاته. فالوجود الأمريكي المباشر في منطقة شرقي الفرات، وفي منطقة الجزيرة تحديداً منذ سنوات، قد مكّن المسؤولين الأمريكيين المعنيين بالملف السوري، والكردي على وجه التحديد، من الاطلاع على الواقع الموجود على الأرض. كما تعرفوا على معاناة الناس، واستطاعوا دراسة توجهاتهم.
لقد اعتمد الأمريكان على القوة التنظيمية العسكرية لدى حزب الاتحاد الديمقراطي في مرحلة مواجهة داعش، وهي قوة لا تمتلكها الأحزاب الكردية السورية، سواء الداخلة ضمن المجلس الوطني الكردي أم الموجودة خارجه؛ وذلك لسبب جوهري هو أن هذه الأحزاب لم تتبن العمل العسكري في أي وقت من الأوقات، ولم تطالب بالسلطة والانفصال. وإن برامجها كانت دائماً برامج مطلبية، إذا صح التعبير، أساسها الدعوة إلى رفع الظلم المفروض على الكرد، وهو الظلم المتمثل في المشاريع التمييزية، والإجراءات والقرارات الاستثنائية. إلى جانب ذلك كانت الأحزاب المعنية تطالب بإقرار الحقوق القومية المشروعة للكرد في الدستور، وذلك حتى لا تكون خاضعة لأمزجة الحكام، وتقلباتهم الأيديولوجية أو الشخصية.
ولكن في المرحلة الحالية التي يجري الحديث فيها عن إمكانية التوصل إلى حل عام للمسألة السورية، والمسألة الكردية السورية هي جزء منها في نهاية المطاف؛ يدرك الأمريكان صعوبة تسويق الاتحاد الديمقراطي، أي حزب العمال الكردستاني في الساحة السورية، وذلك لأسباب كثيرة في مقدمتها واقع عدم كون هذا الحزب حزباً سورياً، وإنما هو حزب وافد بناء على أجندات مختلفة، منها ما تخص النظام، ومنها ما تخص القوى الإقليمية والدولية. هذا في حين أن الأحزاب الكردية السورية، سواء تلك الموجودة ضمن المجلس الوطني الكردي على وجه التحديد، أم تلك التي غادرته، أو لم تدخله أصلاً لأسبابها الخاصة، تظل بصورة عامة في منظور الناس في المنطقة من الكرد والعرب والمكونات المجتمعية الأخرى أحزاباً سورية، لا يشكك أحد في انتمائها السوري. هذا في حين أن الجميع يعلم أن حزب الاتحاد الديمقراطي ما زال تابعاً لقيادة قنديل؛ وما لم تحصل عملية فك ارتباط صريحة واضحة بينه وبين حزب العمال الكردستاني، بصورة تحرر الحزب المعني من الالتزامات السياسية والتنظيمية الصارمة، فلن يكون للمباحثات والمفاوضات الحالية أي معنى أو مردود.
كما يدرك الأمريكان أنه من الصعب تسويق هذا الحزب الذي تحالف معه في محاربة داعش لدى حليفتهم تركيا، لأن الأخيرة تعتبره امتداداً لحزب العمال الكردستاني المدان بالإرهاب لديها. وما نراه في هذا المجال هو أن المفاوضات الجارية لن تصل إلى شاطئ الأمان من دون سعي أمريكي جاد يبذل على مستويين: الأول، متابعة موضوع فك الارتباط بين حزب الاتحاد الديمقراطي وحزب العمال الكردستاني.
أما المستوى الثاني، فهو يتمثل بالعمل من أجل إعادة الحياة إلى العملية السياسية السلمية التي كانت تستهدف الوصول إلى حل عادل للقضية الكردية في تركيا، وهي التي جمعت في السابق بين ممثلي الحكومة التركية وممثلين من حزب العمال الكردستاني.
هذه الخطوة المزدوجة مطلوبة من جانب الأمريكان، إذا كانت هناك جدية في التعامل مع ملفات المنطقة، ومنها ملف النفوذ الإيراني في سوريا، وملف العلاقة المعقدة مع حليفتها تركيا، وملف الحل الشامل في سوريا، وملف العلاقة مع إقليم كردستان، وملف الأمن والاستقرار في المنطقة بصورة عامة.
الأوضاع في المنطقة معقدة ومتداخلة من دون شك، خاصة في ظل هيمنة الفساد المرعب الذي بات غولاً يهدد الدول والشعوب، وهذه الأوضاع تستلزم حلولاً جادة تراعي مصالح مختلف الأطراف على أساس احترام التباينات والخصوصيات والحقوق. وكل ذلك يفتح الآفاق أمام استثمار الطاقات لصالح مشاريع تنموية تستقطب الموارد البشرية الشابة، وتقطع الطريق على نزعات التطرف والتوسع والإرهاب.
_____________________________________________________________________________________
*نشر في القدس العربي اﻷحد 7 حزيران/يونيو 2020، للقراءة في المصدر اضغط هنا