رأي- عبدالناصر العايد
اقتربت واشنطن من عقد اتفاق نهائي مع أنقرة حول المنطقة “الأمنية” على حدود تركيا الجنوبية، وفق مصدر ديبلوماسي غربي مطلع. لكن واشنطن تعلم قبل غيرها، أن ذلك الاتفاق لن ينهي المتاعب التي يثيرها طرفا النزاع الكردي-التركي، بعدما اقحمت نفسها فيه؛ فلا أكراد سوريا جادون في مزاعم الانفصال عن حزب “العمال الكردستاني” وطموحاته البعيدة، ولا تركيا يهمها فقط تأمين حدودها ضد هجمات محتملة عبر الحدود. وواشنطن تستعد لجولة جديدة من المساومة، التي قد تضطرها في النهاية إلى الانسحاب من كامل هذا الملف، وترك تسويته لأطراف أخرى.
ما الاتفاق المنتظر؟
تطمح أنقرة إلى منطقة خالية من أي وجود لـ”وحدات حماية الشعب” الكردية على امتداد الحدود، وبعمق يصل إلى 50 كيلومتراً. وقد كانت أنقرة تطالب سابقاً أن تشغل قواتها هذه المنطقة، أو فصائل تابعة لها، في صيغة شبيهة بـ”درع الفرات” أو “غصن الزيتون”. لكن، الطرف الكردي لم يوافق سوى على منطقة بعرض 5 إلى 10 كيلومترات، تشغلها قوات محلية وتقودها قوات متعددة الجنسيات بريطانية وفرنسية وأميركية، ومن بعض الدول العربية. وكانت واشنطن قد طلبت مؤخراً من تلك الدول المشاركة، واستجابت لها باريس ولندن. ويدافع الاميركيون عن هذه الصيغة، مع إضافة بند يتعلق بإبعاد الأسلحة الثقيلة لـ”الوحدات” مسافة تزيد عن 30 كيلومتراً عن الحدود. وهي صيغة ستوافق عليها تركيا في المرحلة الحالية، مع محاولة لتوسيعها قدر المستطاع، من خلال حشد القوات التركية على الحدود، والتلويح باقتحام المنطقة عسكرياً، رغم الوجود الاميركي.
سبق وأرسلت أنقرة رسالة أمنية وديبلوماسية في الأسبوع الماضي، صغيرة ولكنها بالغة الأهمية، عندما ردّت بعنف على إطلاق جهة “مجهولة” قذائف هاون من رأس العين السورية على جيلان بينار التركية. وهذا معناه أن انقرة لن تعدم الذرائع لتنفذ تهديداتها بغطاء الحق المشروع بالدفاع عن نفسها.
عرب تركيا إلى الشريط الحدودي
بدأت أنقرة إجراءات مفاجئة وغير مسبوقة لترحيل السوريين اللاجئين على أراضيها نحو مناطق إدلب وشمالي حلب. وفي حال إقرار المنطقة الأمنية، فإنها ستشهد اقبالاً كثيفاً من المرحلين على السكن فيها، نظراً لتمتعها بحماية دولية ملائمة، ولتوفرها على دعم وتمويل دولي، كما تدعمها تركيا لتشجيع اللاجئين والنازحين السوريين على سكن المنطقة، خاصة المُهجّرين من مناطق الداخل، والذين لا أمل بعودتهم إلى ديارهم في المدى المنظور. وسيضاف إلى هؤلاء، أكثر من نصف مليون لاجئ من مناطق شمال شرق سوريا ذاتها، يعيشون في أورفه وعينتاب ومناطقها، ممن سيغادرون بالتأكيد إلى الداخل السوري فيما لو قدمت لهم انقرة بعض المغريات ومورست عليهم بعض الضغوط.
وبذلك، ستبني تركيا جداراً سكانياً عربياً مرتفعاً على الشريط الحدودي معها، سيجعل من البلدات والقرى الكردية المتناثرة على الشريط الحدودي جزراً معزولة، تضمحل مع الزمن بالضغط الديمغرافي والأمني، حتى تزول. ولدى تركيا الإرادة والاستراتيجية لفعل ذلك، ولعل إنجازها لهذه المهمة في عفرين، التي لم تعد ولن تعود كرديّة، لا في تكوينها ولا من حيث المحيط العربي الذي تضاعف لمرات، مثال ساطع على عزمها وصلابة نهجها ذاك.
الأميركيون، فضلاً عن الأكراد، يُدركون ما يفكر به الاتراك جيداً، لكن محاولاتهم للوقوف بوجهه تصطدم في العناد الكبير لأنقرة، التي يرى قادتها أن مستقبل تركيا برمتها يتوقف على إبعاد خطر هذه “الدملة الكرديّة” الناشئة على خاصرتها الجنوبية، وازالتها إلى الأبد.
الأكراد.. قبض الريح
بالتزامن مع الضغط التركي يقع على الاكراد في شمال سوريا ضغط المجتمعات المحليّة التي تتقبلهم على مضض في بعض المناطق، وترفضهم في مناطق أخرى مثل ديرالزور. كما تضغط عليهم واشنطن وغيرها من الدول الداعمة لاقتسام السلطة السياسية والعسكرية مع السكان العرب الذين يشكلون الغالبية الساحقة. إذ تتخوف واشنطن من تحول العرب إلى بيئة ناقمة تحتضن عودة “داعش” نكاية بالأطراف التي تتجاهل مصالحهم.
أيضاً، يعاني الطرف الكردي من القلق والحيرة إزاء المعركة الاميركية والخليجية المفتوحة على ايران ومليشياتها في سوريا، فحزب “العمال الكردستاني” في تحالف استراتيجي طبيعي مع طهران، وليس بمقدوره شنّ حرب عليها. وقد تمت دعوة أكراد سوريا للانخراط في هذه المعركة، لكنهم رفضوا ذلك متذرعين بأنها ليست من أولوياتهم. وكبديل عن ذلك، جرى اقتراح منح منطقة ديرالزور قيادة عربية، لتقوم بهذه المهمة بمعزل عن القوات التي يقودها “كوادر” جبل قنديل في الشمال السوري. وقد يعني ذلك أن قوة عربية ستنشأ شرقي الفرات، وتأخذ هذه المهمة على عاتقها، ما سيقلل من المكانة التي كان يتمتع بها الأكراد عندما كانوا الحليف المحلي مع “التحالف الدولي” في المعركة ضد “داعش”!.
موسكو والرهان على الزمن
في هذه الأثناء تعتصم موسكو ومن ورائها حليفيها، نظام الأسد وايران، بالصمت وانتظار فعل الزمن، معتقدين أنه لصالحهم في النهاية. إذ تعتقد موسكو أن ملف الجزيرة السورية سيؤول إليها بمجرد طي آخر علم أميركي. وقد يحدث ذلك بالمفاوضات كأن تتعهد روسيا بحل هذا الملف في إطار الحل الشامل المتعلق بالدستور والانتخابات، أو بانتهاء الازمة بين واشنطن وطهران التي تبدو الدافع الفعلي لبقاء القوات الاميركية هناك، أو حتى بتنفيذ ترامب لوعوده بسحب القوات في سياق تصفية إرث سلفه عند اقتراب موعد الانتخابات الاميركية المقبلة.
ضوء غير مرئي في آخر النفق
مثل كل الأطراف السورية لم يكن لدى الأكراد استراتيجية مستقلة، لا على الصعيد المحلي في الجزيرة ولا في مجمل القضية السورية، بعدما ارتبط عملهم بالقضية الكردية كشأن إقليمي، وبالدعم الاميركي المباشر على المسرح الدولي. وقادهم ذلك تالياً إلى تسليم كافة أوراقهم لتلك القوى على نحو ما فعل زملاؤهم في المعارضات السورية الأخرى، وصار الحفاظ على تأييد الحلفاء شغلهم الشاغل. ويؤذن ذلك بسلسلة تنازلات، وتضاؤل في القيمة السياسية، ستنتهي إلى التلاشي في لحظة ما، ما لم تستند إلى شرعية شعبية، كاجراء انتخابات مثلاً، ونسج شبكة تحالفات مع القوى المحلية والوطنية التي تتشارك معها الجزء الصلب من القضية السورية، وهو اسقاط نظام الاستبداد وبناء نظام جديد، أكثر عدالة وديموقراطية.
المدن ٢٦ تموز/يوليو ٢٠١٩