محمود الطويل
تُنسب إلى الفقيه “العز بن عبد السلام” عبارة شهيرة: (من نزلَ بأرضٍ تفشّى فيها الزنا فحدّث الناس عن حُرمة الربا فقد خان).
لمّا قرأتُ عن دخول الشيخ أسامة الرفاعي إلى منطقة اعزاز في سوريا وخطبته لأول جمعة من آب 2021 ـ وربما هي الأولى له في سوريا منذ خروجه من دمشق ـ لم أكن أتوقع أن تكون كذلك، الشيخ أسامة هو رئيس المجلس الإسلامي السوري والداعية الشهير بموقفه ضد النظام حين كان في دمشق خطيبا لواحد من أهم جوامعها “جامع الرفاعي”.
رأيتُ الخطبة مصوّرة، وهي منشورة على قناة المجلس الإسلامي السوري في يوتيوب دون عنوان، وإذا سُئلت عن عنوانها فسأقول: (إنّ المنظمات رجس من عمل الشيطان).
بينما تنزل على السوريين النوازل في شمال البلاد وجنوبها، من إدلب إلى درعا، وتتجاوز الفصائل عليهم، وتسومهم سلطات الأمر الواقع سوء العذاب، ويتقسّم الثوار والمقاتلون على أنفسهم، ويضلّ الناس سُبل الثورة والحياة المتزنة، وفي أول خطبة للشيخ أسامة على منبر في سوريا التي خرجت عن سلطة نظام الأسد نراه يتحدث عن منظمات المجتمع المدني الموجودة في الشمال كمراكز لنشر الإلحاد، وعن النساء العاملات في المنظمات كمجندات من الأمم المتحدة والغرب، وأن المعركة مع الإلحاد هي أخطر المعارك الآن، ولا أعلم بأي معارك قارنها الشيخ والناس تُقصف وتُهجّر ويُعتدى على حُرماتها من النظام وروسيا وإيران ومن فصائل مسلحة محسوبة على ثورة الناس!
شنّ الشيخ حملة وحشّد المصلّين على المنظمات والمشاريع الإنسانية العاملة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام وسماها “مراكز من دول الاستعمار والكفر والضلال وهدفها نشر الإلحاد”، وهذا اتهام يتطلب أدنى درجات التوثّق والتأكد فهو بالشمال تحريضٌ، وهذا الاتهام لا يُقال دون بيّنة تؤدي إلى توقيف منظمة أو مشروع من قِبل جهة رسمية أو شبه رسمية، وإلا فهو يدعو لإلحاق الضرر بكل جمعية ومؤسسة ومشروع، وكأن الشيخ لا يعلم أن كثيرا من هذه المنظمات والجمعيات برغم مشاكلها الإدارية والمالية تساهم في استمرار حياة الناس وتخفيف آلامهم وسد احتياجاتهم، وفوق ذلك لم يذكر الشيخ نماذج جيدة أو يستثني في حديثه لعل السامع يجد تخريجا لبعض المنظمات والجمعيات بل فتح النار شاملة عامة.
وانتقل الشيخ منها إلى هجوم ضارٍ على النساء السوريات العاملات في المنظمات والمشاريع التنموية بأنهن يدعون إلى تمكين المرأة وحريتها وضلالها والتعري والجندرة، وكأنه يَنْقُصُ مجتمعنا تأليبٌ على المرأة، وذلك بدل أن يدافع عنها وينشر وعيا بأحقيتها في خياراتها وحياتها، خاصة بعد الجرائم المتكاثرة بحق النساء عندنا، ونعلم ما تتعرض له النساء خاصة العاملات في المنظمات من تهجّم وازدراء اجتماعي، وزاد الشيخُ هذا التوجه باتهاماته لهنّ، ولم يراعِ الشيخ ذكر أمثلة حميدة كي يعتدل خطابه قليلًا، متجاهلًا ما تجاهد من أجله هذه النساء وما تسعى إليه من عملٍ راقٍ يعين أسرتها ومجتمعها وتعين به غيرها من نساء لا معيل لهنّ.
وما فتئ كعادة المشايخ يُقارن مجتمعنا بالغرب الذي انهار وفقَدَ الأسرة، كما قال، ويأتي بكلام غريب عن أنهم يُلزمون الشاب أو الفتاة إذا بلغوا 18 عاما بالخروج من المنزل أو دفع إيجار بدل سكنهم في منزل أهلهم، وهذا يدل على سطحية معرفته فيما يتحدث عنه، فهذا ليس صحيحا ولا أعلم بأية جرأة يهاجم هذه الزاوية بدول تُعنى بالتكافل الاجتماعي ماديا ومعنويا لأبنائها وللاجئين فيها، ذلك عدا عن سذاجة هذا الطرح.
قعدَ بين الخطبتين، فظننتُ أن الخطبة الثانية القصيرة لا بد أن تكون عن درعا وما يحدث فيها وأن تكون نصيحة واضحة لا تخشى في الله لومةً للفصائل وتجاوزاتهم وأن يتقوا الله في الناس وما إلى ذلك، ولكنه خذلني مرة ثانية، عاد إلى الهجوم وكان أوضح وأكثر تحريضًا على المنظمات الخيرية والإغاثية والتنموية والتدريبية، وراح يشدد بالحذر من التدريبات التي تُقدم مجانًا للشباب والشابات وفيها “سمٌ زعاق” ـ
شنّ الشيخ حملة وحشّد المصلّين على المنظمات والمشاريع الإنسانية العاملة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام وسماها “مراكز من دول الاستعمار والكفر والضلال وهدفها نشر الإلحاد”.
لا أعلم لماذا استخدم “زعاق” بدل “زعاف” والزعاق هو المر والزعاف هو المميت ـ وأن هذه التدريبات هدفها قتل الدين والأخلاق والشيم، وليدلل على كلامه ضرب مثالًا لحادثة في دمشق أنهم أرسلوا من يستكشف لهم حقيقة هذه الدورات يومها “فإذا بها من أرذل ما يمكن أن يُتصور، الأمور التي تُدرّس فيها والله لا تخطر على بال مسلم ويستحيي من الله أن ينطق بلسانه بما يُفعل في هذه الدورات” هذا كلامه حرفيًّا وكأنه يقول للناس لا تستثنوا أحدًا ونحن واثقون كل الثقة مما نقول.
بعد هذا، فاجأني قوله: “أبرئ ذمتي بين يدي الله أنني قد قلت ما يجب عليّ أن أقوله”، الشيخ مقتنع أن هذا ما ينبغي عليه قوله، والله لولا هذه العبارة لراودني ظنٌّ أنه مجبرٌ على ألا يتحدث عن ما يحرم الناس حياتهم وأحلامهم وسعيهم.
أما الصدمة الأخيرة فقد كانت أن الشيخ لم يذكر درعا حتى في دعائه ولا إدلب والمناطق التي يقصفها النظام والروس يوميا، لم يتذكر في دعائه الشهداء والجرحى والمصابين، لم يتذكر عوائل المفقودين حتى بدعوة تسر خاطرهم، للأسف.
يخوّف الشيخُ من الإلحاد مجتمعًا يُحجّب الفتاة في سن العاشرة تقريبا، ولن تجد من بلغت عامها الثامن عشر دون حجاب، يُخوف الشيخ من الإلحاد مدنا فيها المساجد والجوامع أكثر من المستشفيات والمراكز الطبية مع أن الناس يقصفون ويُقتلون ويصابون يوميًا، وفيها جلسات حفظ القرآن أكثر من الدورات التعليمية مع أن الجهل يخيّم على الناس كظلهم، يُخوف من الإلحاد ناسًا ما زالوا يذكرون إعدام طفل بائعٍ بتهمة لفظ مسيء للنبي، ويُبرر معظمهم ما يُسمونه “جرائم شرف”، ويَذْكُرون حوادث جَلْدٍ ورجمٍ وقطع، ويذكرون حالات سجن ومداهمة بتهم الكفر أو الفسق أو الزندقة، فهل هذا مجتمع تخيفُه من الإلحاد؟ أم يجب أن تنصح سلطات الأمر الواقع فيه أن يصلحوا سلوكهم ويتقوا الله بالناس؟!
يا شيخنا، وكلّ إنسان يوشك أن يقع في زلل، لكن الاعتذار والتوضيح أدعى للحق، أظن أنه لا بد من تصوير كلمة تعتذرون فيها من أهل درعا وإغفال ذكر مصابهم من قصف وحصار، ومن أهل كل منطقة تُقصف، ولا بد من اعتذار لكل من طاله ظلم الفصائل العاملة في الشمال وسلطات الأمر الواقع هناك، ولا بد من توضيح لموضوع المنظمات والجمعيات، وتخفيف الاحتقان ضدهم، وقبل ذلك كله، لا بد من اعتذار واضح وجريء من كل النساء العاملات في المنظمات خاصة ومن كل النساء عامة فلهم علينا جميعًا حق كبير.
للحظة، تخيّلتُ أن هذه الخطبة أُلقيتْ في دمشق، فهل فيها ما يمنع ذلك؟ لا، إلا كلمة واحدة قالها الشيخ ـ ربما سقطت منه سهوا ـ عندما وصف المناطق التي هو فيها بـ “المحررة”.
المصدر: syria.tv