جسر – صحافة
ينطبق على السوريين ما قاله الروائي الروماني، قسطنطين فيرجيل جيورجيو، في روايته “الساعة الخامسة والعشرون”: “أولئك الذين يعيشون على الهوامش، هوامش العالم، هوامش الحضارة، هوامش المجتمع، هم المخوّلون لرؤية الحقائق المرّة للعالم”. وعلى الرغم من التسليم بهذه العبارة التي لا تشذّ عما هو عام وإنساني في سورية إلّا أنّها لا تغنينا عن التذكير بأنّ السوريين، وخلال خمسة عقود، سُجنوا داخل آلةٍ جبارة لمنظومةٍ فاشيةٍ تفوح منها طائفية عميقة ومخيفة، ومهما بذلوا من مجهود فإنهم لن يخرجوا منها بسهولة. ساكنون داخلها ومطعونون بهواجس الخوف والعجز والنقص، ما أدّى إلى فرز نوعٍ مستجدّ من البشر اسمه “المواطن السوري الجديد” هذا الكائن عندما فشل في صياغة وطنٍ على هواه، لفظته الحدود وابتلعته البحار ونبذته المخيمات، حتى نسي كيف كان، في زمنٍ ما، ينتمي لكائناتٍ تعشق وتفرح وتتألم. وهذا يفترض، بطبيعة الحال، ضرورة الاتفاق على أنّ السوري هو الوحيد الذي شهد مبكّراً على دخول بلاده الساعة “الخامسة والعشرين”، حيث لن تشرقَ شمسٌ من بعدها، ولن يحلَّ عليه يومٌ جديد. وفي الواقع، إنّها ليست ساعة الموت، إنّها لحظة الاختناق البطيء لأقليةٍ بشريةٍ لا وظيفة لها غير إدارة جحافل آلات العنف والقهر وصيانتها وتنظيفها. ويتطلب إثبات هذه الفكرة استحضار حقيقةٍ جليّةٍ تخصّ السوري الذي يفنى بطريقةٍ صاخبةٍ، ولا أحد يكترث، إنه يولد ثم يندثر، وما كان يجب أن يكون حياةً وعملاً بين الضفتين لا يعدو كونه فاصلاً عرضياً في العالم، وغباراً تذروه رياح الأرض.
وإن كان على المتابع أن يقف مستبصراً، يقرأ بتأنٍّ الأحداث السورية، فلا شك أنّ نوعاً من “النكوص” في ديناميات القراءة، وميلاً واضحاً إلى التفسيرات السطحية إن لم يجزم أنّ كلَّ ما يحدث في سورية، إن كان حدثاً جللاً أم عابراً، مرتبطٌ بشكلٍ عضويّ بعضه بالبعض الآخر. وبالتساوق مع هذه البدهيّة، لا بدّ من التسليم بأنّ أولى التحدّيات أمام قراءة تشريحية للحدث السوري، هي الانطلاق من مبدأ تفكيك آلة العنف الجبارة، ما يساعد على فهم أو احتواء العقد والأضاليل والوقائع المعقدة. وهذه عينةٌ من المعطيات لفهم “حدّوتة الألم السوري” كاملة:
كشفت صحيفة روسبالت، الروسية، أنّ رأس النظام السوري اشترى لزوجته، أسماء الأسد، لوحة بقيمة ثلاثين مليون دولار أميركي، وتحمل اللوحة اسم “سبلاش”. .. تصدّرت سورية قائمة الدول الأكثر فقراً والأكثر خطراً في العالم، كما حافظت على المرتبة الأخيرة في قائمة مؤشّر الفساد العالمي في التقرير السنوي الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية لعام 2020، لرصد حالتَي الشفافية والفساد، في 180 دولة… احتلت سورية المرتبة 101 على مؤشّر الأمن الغذائي التابع لمجلة إيكونوميست، البريطانية، بحكم أنّ 60% من السكان يعانون من انعدام الأمن الغذائي في أسوأ حالةٍ إنسانيةٍ شهدتها سورية على الإطلاق… كشفت وثيقة حكومية سورية عن مشروعٍ قيد الدراسة لاستبعاد شرائح ميسورة وفئات من أصحاب المداخيل المرتفعة من برنامج الدعم الحكومي للمواد الأساسية والمحروقات… عزف النشيد الإيراني عوضاً عن النشيد السوري خلال مباراةٍ في تصفيات كأس العالم لكرة السلة بين سورية وكازاخستان، ولم يبدُر أي اعتراضٍ مباشر من لاعبِي المنتخب السوري، على الرغم من علامات الاستغراب، فظلوا صامتين، حتى إكمال النشيد وصفقوا بعد نهايته… لقي رضيعٌ سوريّ مصرعه في غابةٍ متجمّدة قرب الحدود البيلاروسية البولندية، ليصبح أصغر ضحية وثّقت وفاتها خلال أزمة المهاجرين الحالية على حدود الاتحاد الأوروبي… إلخ.
في ضوء هذه الأخبار غير المترابطة “ظاهرياً” دعونا نعود إلى المربع الأول، في محاولةٍ لفهم المأساة السورية، على الرغم من أنّ الحل ليس في هذه التحديدات القطعية، وإنما بوضع دستور وطني غير خارج عن منطق الواقع وقوانينه ونواميسه، بالاستناد لقراءة اللوحة السياسية التي مهدت للأزمة الحالية، والتي بدأت عندما غدا السوريّ على علاقةٍ ملتبسةٍ بوطنٍ تحوّل إلى حقلٍ مليء بالألغام، وعندما اختزل النظامُ الحاكم البلدَ بعناوين زعامات الأوليغارشيات السياسية، فأصبح معيار الولاء هو الذوبان في شخصية الزعيم، وتعليق صوره على قارعات الطريق وفي مداخل البيوت. وليس بنيّة الوقوع في خانة سوء الفهم المقصود الجزم يقيناً أن من تبعات هذه العلاقة المرضية إهدار مفهوم الوطن، ليغدو خطاباً وهمياً منتفخ الأوداج استخدمته السلطة للاستحواذ والاستبداد، وتحويل العواطف الوطنية إلى شعاراتٍ زاعقة، ثم العمل على إيهام السوري المسحوق أنّ انتسابه لهذا الوطن يمنحه امتيازاً عن غيره، ويشحنُه بشعورٍ غامضٍ بالتفوق، شعور ما لبث أن تضخّم الى حدّ العمى والهوس، ما عزّز الاستلاب والانسحاق، وإحساساً مريراً بالاغتراب داخل وطنٍ شهد هزائم متصلة وأدلجات متطرّفة، اختلط فيها الحقيقي بالكاذب، والواقعي بالافتراضي، ووصل الأمر إلى حدّ إلغاء كيان السوريين واحتقارهم، واعتبارهم قطيعاً بحاجة إلى قادةٍ ورعاة.
يقول كارل فون كلاوزفيتز: “لا يمكن التعرّف على طبيعة المواقف، في وقتٍ لا يزال ضباب الحرب يحجب الرؤية”. ما يدفعنا في اتجاه آخر، وهو الجزم بأنّ نتائج الحرب السورية لا تُقاس فقط بعدد الضحايا، إنما أيضاً بعدد السوريين الذين بقوا متمسّكين ببلد غدا أشبه بسجن تتفرّع عنه كانتونات مخابراتية، يزيد عددها على عدد المدارس والمسارح ودور النشر والسينما، سجنٍ لا يفرّق بين جريمتي السرقة والكتابة، أو بين رجلي العصابة والخطابة. وعليه، لا يمكن أن يكون سقفُ التوقعات مرتفعاً في بلدٍ كسورية يعاني من التعقيد والغموض، ما يجعل إمكانية القبض على الملامح العامة أو حتّى تقديم تقديرات متوازنة أو مستقرة، أموراً في غاية الصعوبة، رغم هذا لا يغيب على أي متابع عادي حقيقة مُشاهدة، مؤلمة لكن لا جدال حولها، وهي أنّ “المواطن السوري الجديد تخلّى فعلياً عن وطنه”. هذا التخلّي يظهر في عدم الاعتراض الفوري على استبدال النشيد الوطني بنشيد آخر، في غضّ النظر عن فساد نظامٍ يشتري لوحة بملايين الدولارات تكفي لإطعام شعبٍ منهك وجائع.. تخلّى السوريون عندما انساقوا كالقطيع في طوابير الذلّ الطويلة ولم يعترضوا على انقطاع الكهرباء والوقود والغلاء الفاحش وانهيار العملة الوطنية.. عندما سكتوا عن القتل وعندما برّروه.. عندما لم تهزّهم سرقة تاريخهم وآثارهم.. عندما مرّروا، ولو بصعوبة، جرائم نهب المعامل والحرائق المقصودة التي التهمت خير البلاد.. عندما سمحوا للغرباء بالدخول إلى قراهم ومدنهم، بل وأكثر، عندما شاركوا بقتل شركائهم في الوطن، فقط لأنهم اختلفوا في تقدير الزاوية التي ينظرون من خلالها إلى الوطن المشتهى… عندما تعاقدوا مع سماسرة الهجرة ضد أبناء البلد لينجوا بأنفسهم.. تخلّوا لأنهم ما زالوا داخل تلك الآلة الجبارة يبرمجون أنفسهم على قيام الساعة “الخامسة والعشرون”، غير قادرين على الصراخ، لأنهم لم يتعلّموا، وعلى الرغم من كلّ ما مرّوا به، أنّ وقت الأزمات الكبرى هو وقت طرح الأسئلة المصيرية في سبيل الخلاص الكبير. لذا من الطبيعي أن يموتَ طفلٌ رضيعٌ على حدود البلاد البعيدة، بينما السوريّ لا يكفّ عن كونه مجرّد طيف يتأرجح بين قطبين عصيين: بين وطن فقده ووطن يفتقده، وطن تخلّص من وزره ووطن يهفو لأن يكون له خلاصاً، والمسافة بين البعدين قصاص.