جسر: متابعات:
في كل الحروب وعلى مدار التاريخ، وُجدت دائماً أطراف رفضت السلام، وعملت جاهدة لإدامة الصراع وعرقلة أي فرص للحل، ليس لأن هذه الأطراف كانت أكثر شجاعة، بل لأنها كانت على ارتباط وجودي بالحرب واستمرارها.
نهاية الحرب يعني نهايتها، لذلك فقد حفل التاريخ بحروب غريبة طالت عشرات السنين، وبعضها استمر مئة عام أو أكثر، والسبب هو أن أطرافاً في هذه الحروب كانت ترفض أن تنتهي المعركة.
في سوريا، كان هناك طرفان هما الأكثر إصراراً على استمرار المعارك، وعملا بجد منذ اللحظات الأولى لاندلاع الأعمال العسكرية على أن تستمر الحرب، وأفشلا دائماً الجهود والمساعي التي بذلت لإيجاد مخارج، ورفضا حتى الهدن وأفسدا العديد منها عبر الخروقات التي تعمد كل منهما ارتكابها لتبرير مواصلة القتال.
الطرف الأول هو النظام ومن خلفه إيران، والطرف الثاني هي الجماعات الجهادية المتشددة، وكلاهما يدرك أن الحرب بالنسبة له تعني مسألة وجود، يستمر باستمرارها ويزول بزوالها، بل ويعرف أنه كلما استعرت المعارك أكثر وكلما وقع ضحايا أكثر، كلما ساعد ذلك على زيادة شعبيته وتنامي قوته، أما توقف القتال فيعني حتماً نهايته.
لذا فإن المتتبع لمسيرة الحرب العسكرية في سوريا، يجد أن هذين الطرفين عرقلا باستمرار كل الجهود التي سعت لوضع حد لهذه الكارثة، بل وإلى اليوم تجد أن كلاً منهما يستميت من أجل تقويض الهدنة المطبقة في منطقة إدلب ولا يخفي تمنيه أن تستأنف عجلة الموت دورانها.
ولولا الأمر الواقع الذي فرضته تركيا وروسيا بالقوة هناك، ولولا خشية الجماعات السلفية الجهادية من جهة، والنظام والميليشيات الإيرانية من جهة مقابلة، من رد الفعل التركي والروسي تجاه كل منهما، والحزم الواضح الذي تبديه العاصمتان لإنجاح الهدنة هذه المرة، لما تأخر الطرفان في تقويض هذا الاستقرار.
نقول ذلك لا على سبيل التحليل والاستقراء فقط، بل وبناء على معطيات مؤكدة أيضاً، إذ لم تتوان روسيا عن توجيه الرسائل الصريحة والمبطنة للنظام وإيران والتي هددت فيها باتخاذ إجراءات عقابية في حال قررا خرق وقف النار في إدلب، حتى إن موسكو أرسلت وزير دفاعها إلى دمشق من أجل التأكيد على ذلك بعد أن تلمست إرادة قوية لدى دمشق وطهران في هذا الاتجاه.
بالمقابل لا تكف حسابات بعض الفصائل الجهادية الموجودة في إدلب على مواقع التواصل عن التهجم على الاتفاق الروسي التركي، وتخوين وتكفير فصائل وقوى المعارضة الداعمة لهذا الاتفاق، أو التي قبلت به أو صمتت عليه، بما فيها هيئة تحرير الشام، واعتبار الهيئة وبقية الفصائل عملاء وأتباعاً للحكومة التركية، التي وصف هؤلاء جيشها “بالعدو الصائل” وصولاً إلى التحريض عليه وعلى بقية الفصائل، رغم أن مجموع عدد مقاتلي تلك الجماعات الرافضة للهدنة لا يتجاوز الثلاثة آلاف، ورغم فشلها في تحقيق أي إنجاز بمواجهة تقدم قوات النظام طيلة السنوات الثلاث الأخيرة الماضية.
والواقع أن كلا الطرفين محق في موقفه، وما الخلافات التي عصفت بكل منهما خلال الشهرين الماضيين الذين توقفت فيهما المعارك، إلا دليل على إدراكهما لحقيقة ما سيكون عليه موقفهما مع نجاح هذه الهدنة.
فما إن هدأت المعارك حتى تفجرت المشاكل الداخلية لدى كل منهما، وعلا ضجيج الخلافات قوياً عند النظام كما لم يحدث من قبل، وإلا فمن كان يتوقع أن تتأزم العلاقة بين آل الأسد وآل مخلوف على النحو الذي باتت عليه الآن، حتى أصبح التراشق علنياً والتهديد المتبادل بينهما والفضائح التي يفجرها كل طرف بحق الآخر بمتناول الجميع، وهذا كله لم يكن ليحدث لو أن القتال ظل مستعراً، وكان طرفا الخلاف سيؤجلان هذه الحرب الداخلية بكل تأكيد تحت شعار (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة).
على الطرف الآخر بدأت الخلافات تسفر عن وجهها أيضاً لدى الجماعات الجهادية الرافضة للهدنة أيضاً، ولم يقتصر الأمر على هيئة تحرير الشام التي تبدي كثيرا من الواقعية والمرونة، وتمكنت من تجاوز آخر المشاكل الداخلية التي واجهتها باستقالة بعض القيادات فيها ثم العودة عنها، بل انسحب ذلك على قوى أخرى كانت حتى الأمس شديدة التقارب.
فقد أعلن لواء أنصار التوحيد انسحابه من غرفة عمليات “وحرض المؤمنين” التي تضم الفصائل الأربعة التي تدين بالولاء للمنظر الجهادي الفلسطيني الأردني أبو محمد المقدسي، وهي بالإضافة إلى اللواء، تنظيم حراس الدين وجبهة أنصار الدين وحركة أنصار الاسلام.
لم يكتف لواء أنصار بذلك بل وأعلنوا تحللهم من أي معاهدات سابقة تربطهم بالجماعات الأخرى، في تملص واضح من اتفاقية الحماية المبرمة مع حراس الدين بداية عام 2018 الأمر الذي استدعى انتقادات واسعة من قادة الأخير ومن المقدسي ذاته.
ورغم عدم توضح أسباب هذا الخلاف فإن معرفة السبب المباشر لا تضيف شيئاً في النهاية، فالخلافات كانت ستحضر لأي سبب، والانشقاقات هي النتيجة الحتمية لمثل هذه التنظيمات التي لا يمكن أن تجد بيئة حاضنة لها إلا في الحروب والصراعات، لذا فإنها، مثل النظام، كانت من أشد المعادين لأي تهدئة.
لا يلقي النظام وهذه الجماعات بالاً للضحايا الذين يسقطون جراء الحرب المستعرة، ولا تعنيهما بأي حال عذابات السوريين الذين يدعي كل منهما أن حربه التي يخوضها هي من أجلهم، وما يعنيهما فقط هو أن تستمر هذه الحرب بأي شكل، إذ يدرك كل منهما أن توقف الحرب يعني نهايتهما، وخلال أقل من ستين يوماً من الهدوء حدث ما أكد هذه الحقيقة، حقيقة أن الطرفين لا تعنيهما نتيجة الحرب بقدر ما تعنيهما الحرب ذاتها.. كملاذ آمن لهما من الخلافات، ومن الزوال.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا: ٥ أيار/ ٢٠٢٠