جسر: متابعات
بذلت إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش، جهداً لكي تقنع الرأي العالمي أن غزو العراق 2003 لم يكن له علاقة بوجود النفط في البلاد، وإن كان هذا الكلام غير مقنع لكثير من الأسباب، من أهمها أن نائب الرئيس في ذلك الوقت ديك تشيني، عمل رئيساً تنفيذياً سابقا لشركة هاليبرتون، التي تولت أمر اعادة تأهيل القطاع النفطي العراقي بعد الاجتياح الأميركي.
وربما الموقف العلني لإدارة بوش بما يخص نفط العراق، هو ما يزيد من غرابة موقف الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب، تجاه نفط سوريا، الذي اصبحت حمايته السبب الأهم في العدول عن قرار الانسحاب الكامل بحسب تصريحات الرئاسة، آخذاً بعين الاعتبار أن التواجد الأميركي في سوريا قابل للتغيير في أي وقت.
يطبّق ترامب سياسة “أميركا اولا” بشكل متزايد منذ توليه الرئاسة، وتدعو هذه السياسة إلى العزلة وعدم الانخراط في الصراعات العالمية الا في حالات تخدم مصالح أميركا بشكل مباشر. تعتبر حاضنة ترامب الشعبية، التي أوصلته إلى الرئاسة 2016، التواجد الأميركي في سوريا واحدة من هذه الحروب التي ليس لأميركا مصلحة واضحة فيها. وأراد ترامب تحميس هذه الحاضنة قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة 2020، من خلال الانسحاب الكامل من سوريا، لعله يتمتع بدعم قوي منها مرة اخرى.
ولكن يبدو أن ترامب لم يأخذ بالحسبان حجم المعارضة الهائلة الذي سينتج عن هذا القرار، إذ أثار عاصفة من الاستنكار في الأوساط السياسية الأميركية، بما انه قدّم منطقة شرق الفرات، المحتوية على ثروات طبيعية وأهمية استراتيجية كبيرة، لكل من تنظيم “داعش” وإيران وروسيا ونظام بشار الأسد على طبق من الذهب. ولم تتوقف موجة الاحتجاج عند خصوم الرئيس في الحزب الديموقراطي، فامتدت إلى حلفائه في الحزب الجمهوري، بل الى أكثر المقرّبين منه مثل السيناتور ليندسي غراهم، الذي وصف الانسحاب من سوريا بأنه “أكبر قرار خاطئ رأيته منذ ما دخلت الكونغرس” سنة 1994.
واعتبرت نسبة كبيرة من الجيش الاميركي التخلي عن “قوات سوريا الديموقراطية” وصمة عار وطنية، إذ صرّح إلى “فوكس نيوز” جندي من القوات الخاصة الاميركية، التي تتخذ الالتزام بالصمت الإعلامي جزءاً لا يتجزأ من شرف المهنة، أنه يشعر بالعار لأول مرة في دربه المهني بسبب انسحاب كتيبته من الحدود السورية التركية.
بالإضافة الى المواقف المعارضة للانسحاب التي صدرت عن المؤسسة السياسية والعسكرية، فقد نتج عن هذا القرار سيناريوهات قد تهدّد حملة ترامب الانتخابية 2020، بما في ذلك فرار مئات السجناء المنتمين الى تنظيم “داعش” من سجون “قسد”، وزيادة نشاط التنظيم بشكل عام، ما يفنّد قول الرئيس المتكرر أنه قضى على “داعش” بشكل كامل. ومن هذه السيناريوهات ايضا إتاحة الفرصة لإيران التمدد على الحدود السورية العراقية، ما يقوّض حملة الضغط القصوى التي تبنتها الإدارة الاميركية عنوانا رئيسيا من عناوين سياستها الخارجية. وأخيرا الدور الذي لعبته “قسد” في العثور على أبو بكر البغدادي، زاد من التكلفة السياسية لتخلي ترامب عن الاكراد.
أي شخص مطّلع على الشأن السوري كان بإمكانه توقع حدوث مثل هذه السيناريوهات، ولكن من المرجّح أن ترامب ليس مطّلعا على الشأن السوري، بما انه لا يهتم كثيرا في تفاصيل الأمور.
“احيانا الناس تتفاجئ من سرعة قراراتي الكبيرة، لكني تعلمت كيف اعتمد على غريزتي ولا افكر في الاشياء زيادة عن اللزوم”، كما قال ترامب في كتابه “فكّر مثل ملياردير”. ولا يقرأ الرئيس التقرير اليوميالذي يجمع أهم المعلومات الاستخباراتية الاميركية من صراعات العالم، مخالفاً بذلك عادة أسلافه السبعة، ويفضل الصور والخرائط والفيديو والانفوغرافيك على القراءة، وكذلك يفضل المجادلة على الاستماع خلال الجلسات الاستخباراتية التي يعطيها متخصصون وخبراء من اجل اطلاع الرئيس على أهم التطورات العالمية.
ومن الملفت جداً، أن السيناتور ليندسي غراهام أقنع ترامب بالعدول عن قرار الانسحاب الكامل من سوريا بعدما أطلعه على خريطة، وليس للمرة الاولى، تبيّن ان ثلاث ارباع النفط السوري تحت حماية “قسد” والجيش الاميركي، وان قوات تابعة لإيران متمركزة بالقرب من هذه الحقول وستستولي عليها في حال الانسحاب، حسب قناة ان بي سي.
جاء النفط هنا كحل يتيح لترامب فرصة البقاء في سوريا، ولو مؤقتاً، من أجل امتصاص المعارضة وتلافي التهديدات السياسية التي نتجت عن قرار الانسحاب، ولكن هذه المرة التواجد الأميركي له صيغة قد ترضي حاضنة الرئيس الشعبية. لم تكن لأميركا مصلحة مباشرة أو واضحة في سوريا من قبل، ما ازعج هذه الحاضنة، ولكن الآن توجد الاستفادة المباشرة من الحقول النفطية.
“قد يساعدنا النفط، لأننا من الممكن ان نأخذ جزءا منه. انوي، ربما، في إبرام صفقة مع اكسون موبيل او واحدة من شركاتنا العظماء، للذهاب الى هناك والتعامل مع الموضوع بشكل صحيح،” قال ترامب في مؤتمر صحافي بعد الإعلان عن مقتل أبو بكر البغدادي.
قد ينفر المحامون والحقوقيون من هذا الاقتباس، ولكنه لا يستهدفهم. التواجد الأميركي المستمر في سوريا سيعود بالنفع مباشرة على الاقتصاد الوطني، هذا ما يقوله ترامب وهذا هو الكلام المطلوب عند المنتخبين المشجعين لسياسة “اميركا اولا”. لا يهم اذا خالف الاستيلاء على الحقول النفطية القانون الدولي، ولا يهم ان الكمية المستخرجة لا تُعتبر شيئاً يُذكر، ولا يهم حتى لو لم تنفذ اية شركة أميركية عمليات استثمار او استخراج او تصدير، المهم ان ترامب يستطيع استخدام حجة النفط في هذا الوقت لأغراض سياسية داخلية، والمصوّت الاميركي لا يدقق كثيرا في التفاصيل.
وتجدر الإشارة هنا، إلى أن ترامب طرح لمرات متعددة فكرة استيلاء أميركا على نفط العراق عندما كان صاحب كازينوهات في بداية الغزو الأميركي لتلك للبلاد. وبعد توليه الرئاسة، خفّف وجود المعادن الأرضية النادرة في أفغانستان من إصراره على الانسحاب الكامل من ذلك الصراع. إذاً السيطرة على الموارد الطبيعية في البلدان الخارجية فكرة مألوفة بالنسبة إلى ترامب، رجل الأعمال، ما يشجّعه على فكرة البقاء في سوريا من أجل الاستفادة من النفط، بالإضافة إلى الخسائر السياسية التي يتجنبها عن طريق هذه الخطوة.