الرقة/ مراسل جسر
وفقاً للأساطير القديمة كانت هوة “الهوتة” في محافظة الرقة، التي لا يجرؤ أحد من الاقتراب منها، ملجأ للـ “السعلوة”، فشكلت بذلك مصدر رعب للأهالي، وخاصة أن تلك السعلوة ستخرج ليلاً لابتلاع من يقوم بصيد الحمام هناك، حيث تعشش أعداد هائلة منه في تلك المنطقة، ولكن تعيس الحظ من يقترب ويصطاد، فالسلعوة ستلاحقه حتى في منزله لابتلاعه.
في عهد داعش، تغيرت النبؤة لتختفي السعلوة، ولتقوم تلك الهوة بابتلاع آلاف الجثث ممن خالفوا شرع التنظيم، إذ تحولت إلى محرقة يقوم التنظيم بإلقاء الجثث التي يود التخلص منها، وإضرام النار بها لإخفاء معالم جريمته.
تقع “الهوتة” في الريف الشمالي لمحافظة الرقة وتبعد ٦٥كم عن مركز المدينة، وبالتحديد جنوب بلدة السلوك،تشكلت نتيجة عوامل طبيعية لانهدامات جوفية و هبوط في التربة ناجمة عن جريان نهر على عمق ما يقارب ٢٠٠م يتجه مجرى مياهه من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي على محاذاة من مجرى نهري دجلة والفرات،
حفرة الهوتة هي ليست الوحيدة في بادية المحافظة لكنها الأكبر و الأخطر بسبب عمقها و اتساعها و شكلها التضريسي الذي لم يسبق له مثيل، فقد كانت تعيش فيها الآلاف من طيور الحمام الذي بنى أعشاشه في الجحور الصخرية منذ زمن بعيد.
بمجئ تنظيم داعش، وخلال فترة بداية حكمه أواخر عام ٢٠١٣، تحولت تلك الهوة إلى مقبرة جماعية تضم الآلاف من الأشخاص الذين يُجهل مصيرهم حتى اللحظة، ومعظمهم من أبناء محافظة الرقة، عاصمة الخلافة المزعومة، وخصوصاً من أبناء الريف الشمالي.
احتضنت الهوتة السوريين من كافة الاتتماءات الدينية والاتجاهات السياسية، فألقي فيها الكثير من المسيحيين، والأكراد، واليزيديين، ومقاتلي الجيش الحر، وعساكر نظام، وجبهة النصرة، ومنهم من ألقيت أجسادهم وهم أحياء.
يقول شهود أنه في إحدى المرات، جمع تنظيم مجموعة من الشبان فكت قيودهم وتركت أعينهم معصوبة، قرؤوا عليهم بياناً ارتجلوه بالإعفاء عنهم من قبل أبو بكر البغدادي نفسه، وطلبوا منهم أن يركضوا بأقصى سرعتهم، وأن يعدوا للمئة قبل أن يزيلوا العصبة عن عيونهم، صدَّق الشبان ما سمعوه، وركضوا، ليقعوا بعد خطوات في مسكن “السلعوة” ويلاقوا حتفهم وسط ضحكات الدواعش المتعالية.
الأشخاص الذين تم رميهم في هوة “الهوتة” اعتقلوا بحجة أنهم أبوا الانضواء تحت راية الإسلام ومناصرة الدولة الإسلامية، لذا يجب أن يلاقوا مصيرهم المحتوم بالموت تحت تهم مختلفة مثل الكفر، الالحاد، ومعاداة تنظيم الدولة، والزنا، والإلحاد، وسب الذات الإلهية، والإفساد في الأرض، و العمالة، و الصحوات، جيش حر ، وبي كي كي، وحتى الإعلاميين قد نالوا نصيبهم و لم يُعفوا من تهمة من بين آلاف التهم اللامتناهية، ومن يُلقى في جوف الهوتة لا يمكن و لا بأي شكل من الأشكال التصريح باسمه أو حتى إعلام ذويه بذلك .
عندما بدأت روائح الجثث الكريهة تنتشر في الأرجاء بشدة من عمق الحفرة، ما كان من مسلحي داعش إلا أن استقدموا عشرات الصهاريج من النفط الخام، وأفرغوها في الهوة ثم اضرموا النار، لمنع انبعاث الروائح و خشية انتشار الأوبئة و الأمراض، استمر تصاعد الدخان حينها عدة أيام مبعوثاً برائحة احتراق النفط والأجساد على مسافة عدة كيلو مترات، وكانت أشبه بجحيم استمر دخانها على مدى أيام متوالية.
وباتت “الهوتة” الآن حلاً للغز اختفاء مختطفي داعش، بعد دحر التنظيم، إلا أنه بات من المحال الكشف عن هويات هؤلاء الضحايا بعد إحراقهم، لتتحول “الهوتة” من مسكن للسعلوة إلى حفرة ضمت مئات الضحايا الذين طويت صفحتهم إلى الأبد.