جسر: متابعات:
على وقع أزمة اليسار العالمي، انكشفت أزمة الأحزاب والحركات السياسية في سورية، وبخاصة اليسارية منها، بعد اندلاع الثورة السورية، حيث توجه بعض أحزابها وشخصياتها لدعم نظام الأسد، بدلًا من السعي للانخراط الفاعل في الحراك الشعبي وقيادته.
تعطلت الحياة الحزبية في سورية تمامًا، منذ احتكار حزب البعث لها وقيامه بحظر تشكيل الأحزاب السياسية، منذ انقلابه في آذار/ مارس 1963، لكن حافظ الأسد استقطب منذ العام 1972 أحزابًا ماركسية وقومية ضمن إطار سمّاه “الجبهة الوطنية التقدمية”، خاضعة لإشراف حزب البعث، وبقيت صورة اليسار طاغية على صدارة وتفاصيل المشهد السياسي والثقافي في البلاد، أكثر من ستة عقود، بينما اختفى الحزب الوطني وحزب الشعب نهائيًا من الساحة، على الرغم من دورهما الرئيس بعد الاستقلال، وكانا يشكلان قبل ذلك نواة الكتلة الوطنية التي قادت النضال السياسي أيام الاحتلال الفرنسي، بينما تحوّلت تيارات الإسلام السياسي، وبخاصة الإخوان المسلمين، نحو العمل السري المنظم، وكذلك كانت هناك أحزاب وشخصيات رفضت العمل تحت غطاء “الجبهة الوطنية”.
ليس هناك تحديد دقيق لمصطلح اليسار السوري، ويبدو مفتوحًا بشكل فضفاض على أحزاب وتيارات ماركسية اشتراكية قومية غير متجانسة أيديولوجيًا، لكنها كانت تعلن ميولها اليسارية، من خلال رفع وتبني شعارات اشتراكية وتقدمية، في مواجهة يمين إقطاعي رجعي، كما كانت تطلق عليه وقتذاك.
على الرغم مما تعرضت له تيارات وشخصيات يسارية من قمع وتنكيل، على يد الأنظمة الديكتاتورية، فإن الغريب اصطفافها إلى جانب الأنظمة العسكرية الانقلابية، بدعوى الثورية والعمل على تطبيق الاشتراكية، وهو ما يدفع إلى تحميلها، مع الأنظمة، مسؤولية الفشل في بناء دولةٍ بدلًا من السلطة الأمنية، والإخفاق في مشروع التنمية والتحديث، وما جرى من تنكيل بحق الشعب ومكوناته الاجتماعية، وحرمانها من الحقوق والحريات الأساسية، وعلى الرغم من مرارة تجربة اليسار نفسه مع الأنظمة، كان الأسوأ بروز تحالف جديد بينهما في مواجهة الربيع العربي.
خسر اليسار الكثير من شعبيته وجماهيريته، بسبب تعالي النخب في خطابها الثقافي والفكري، والمبالغة في التنظير والأيديولوجيا، وإقحام نفسها في سجالات ومواجهات حادة تستفز باقي المكونات الاجتماعية، والانخراط في مشاريع أممية، والتبعية لمعسكر خارجي على حساب المصالح الوطنية، كما تحولت أحزاب اليسار إلى منصة لتكريس ودعم سلطات الأنظمة القمعية، ولتمكين شخصيات وعائلات من الاحتفاظ بمراكز القيادة الحزبية، وتسخيرها لتحقيق منافع ومصالح شخصية.
لم تنفع مراجعات اليسار الماركسي، عقب سقوط الاتحاد السوفييتي، في تجاوز حالة العقم الأيديولوجي المزمن، ولم تكن هناك استفادة من تجارب حركات اليسار الأوروبي، في التحول نحو اشتراكيات ديمقراطية، وظهرت سذاجة بعض الأحزاب في الاعتقاد بأن مجرد التخلي عن اسم الشيوعية كافٍ لإعادة الاعتبار لها وقبولها جماهيريًا.
خسر اليسار فرصة ذهبية، أتيحت له بعد اندلاع الثورة السورية لتجاوز أزمته التاريخية، وفشل في إعادة تنظيم صفوفه وتجاوز شعبية وفعالية الحركات الإسلامية، ويبدو أن نهاية زمن الأحزاب التقليدية السورية على اختلافها، وزمن الحزب القائد، شارفت على نهايتها، وباتت مسألة وقت لا أكثر بانتظار بدء مسار سياسي جديد.
ستفضي الصراعات الدامية بين المكونات السورية إلى تشكيل كيان جديد من دولة أو ربما عدة دول، قد تكون مركزية أو فيدرالية، تعمل بنظام رئاسي أو برلماني، وقد يُفرض فيها نظام محاصصة سياسية طائفية أو قومية، وربما يكرس الدستور دولة دينية أو علمانية أو مزيج بينهما.
يرتسم شكل الحالة الحزبية المستقبلية في سورية، استنادًا إلى شكل الحل الذي ستفرضه في النهاية توازنات ومصالح إقليمية ودولية، ومن المنتظر -بناءً على ذلك- ظهور أحزاب جديدة على أسس قومية أو دينية أو مناطقية، مع تراجع وغياب متوقع للأحزاب الأيديولوجية، وسيلعب تمويل الأحزاب الذي قد يكون من مصادر وطنية أم أجنبية، دورًا مهمًا في قوتها وانتشارها وتأثيرها، ومن المرجح أن تلعب حركات ومنظمات المجتمع المدني دورًا أساسيًا، في مجال الحريات وحقوق الإنسان والنسوية، ويؤثر في تشكيل الوعي الجمعي وصناعة الرأي العام.
تبدو الظروف مواتية لصعود أحزاب يمينية، مستفيدة من فشل تيارات اليسار، ونهاية عصر الأيديولوجيات ونتائج صراع المكونات السورية، وسيجري تحرير الاقتصاد الوطني ليتلاءم مع تدفق أموال المساعدات وإعادة الإعمار.
بالمقابل، هناك فرصة قوية لظهور يسار سوري جديد كليًا، على أن يقدم برامج عملية لمحاربة الفقر والبطالة والحد من انتشار الأمية، وأن يترجم ذلك في برامج انتخابية تكفل الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية.
يمثل ظهور يسار جديد قائم على أسس فكرية وأخلاقية متطورة مطلبًا وطنيًا ملحًا، قبل أن يكون سياسيًا، كما يشكل صمام أمان ينزع فتيل انفجار قادم بتأثير تغول رؤوس الأموال وظهور تجار وأمراء الحروب وغياب العدالة.
جيرون 31 آب/أغسطس 2019