جسر: متابعات:
أثار اعتقال إسلام علوش في فرنسا، الناطق الرسمي السابق باسم جيش الإسلام، ردود أفعال سورية متناقضة. حتى الآن إنبرى للدفاع عنه رئيسان سابقان لائتلاف المعارضة، هما أحمد معاذ الخطيب وخالد خوجة، علماً أن أحداً منهما لم يبذل بحكم موقعه جهداً لمعرفة مصير مخطوفي دوما الأربعة على سبيل المثال. الإسلاميون بغالبيتهم لم يحيدوا عن منحى التشكيك بنزاهة القضاء الفرنسي واعتباره مسيَّساً، ولا تنقصهم المساندة المتعمدة أو غير المتعمدة من فئات تطرح أسئلة بسيطة وساذجة “ولا تخلو منطقياً من الأحقية” عن تلك العدالة التي تقتص من الصغار وتبقي المجرمين الكبار طلقاء يواصلون ممارسة إجرامهم.
وبينما يمر ثمانية وثلاثون عاماً على ذكرى مجزرة حماة، يُصادف أن واحداً من مجرميها الكبار والآمر بتنفيذ مجزرة سجن تدمر قبلها بعامين “رفعت الأسد” يُحاكم اليوم أمام القضاء الفرنسي بتهمة الإثراء غير المشروع، التهمة التي لا تخدش سجله الجنائي الحافل. ذلك يُبرز مفارقة واسعة بين محاكمة إسلام علوش ورفعت الأسد في البلد نفسه، تحديداً للذين لا يريدون قراءة الحيثيات الكاملة للقضيتين. إذ بحكم اختلاف الزمن والأدوات والقدرات، لم تقم أية جهة سورية ببناء قضية متماسكة أمام أي قضاء أوروبي لملاحقة رفعت الأسد على جرائمه. أيضاً، منذ ارتكاب مجزرة تدمر ثم مجزرة حماة، تطورت القوانين في بعض الدول الأوروبية لتطاول جرائم تُرتكب خارج ولايتها الجغرافية. هذا بالطبع لا يعفي حكومات فرنسية متعاقبة من مسؤوليتها الأخلاقية عن استضافتها من تعرف تاريخه الإجرامي، وربما تملك مخابراتها أدلة كافية لمحاكمته.
في حالة إسلام علوش، أتى توقيفه على خلفية ملف أعدته ثلاث منظمات حقوقية ضد جيش الإسلام، في مقدمها المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، بناء على إفادات ضحايا الانتهاكات أو عائلاتهم. جدير بالذكر أن جهود تلك المنظمات أمام القضاء الفرنسي أثمرت في تشرين الأول 2018 عن إصدار القضاء الفرنسي مذكرات اعتقال دولية بحق ثلاثة من مسؤولي الأسد، هم علي مملوك وجميل حسن وعبدالسلام محمود، ونال ذلك استحساناً مشتركاً بين من يختلفون اليوم حول توقيف علوش. ولو شئنا النظر بواقعية إلى مذكرات التوقيف تلك، نعلم أن مسؤولية المذكورين رغم جسامتها لا ترقى إلى مسؤولية عائلة الأسد، ونعلم أن واحداً من الثلاثة لن يغامر بالسفر العلني إلى دولة تحترم مذكرات التوقيف الدولية، أي أن تأثير الأخيرة لا يتعدى الجانب المعنوي.
يُذكر أن للائتلاف، الذي تبرع اثنان من رؤسائه السابقين بالدفاع عن علوش، مكتباً قانونياً يرأسه محام كان يرأس قبل الثورة منظمة للدفاع عن حقوق الإنسان. المكتب العتيد لم يسجّل أي نشاط ملحوظ في متابعة مجرمي الحرب السوريين أمام المحاكم الدولية، بخلاف ما فعله بإخلاص أفراد ومنظمات لا يحظون بالإمكانيات المادية التي حظي بها المكتب. أما الانتهاكات التي ارتكبتها فصائل معارضة، منها ما هو ممثل في الائتلاف، فقد حظيت جميعاً بغض نظر مشين، ولم يصدر في أي وقت ولو بيان خفيف اللهجة يدعو تلك الفصائل إلى احترام الحريات العامة والشخصية في أماكن سيطرتها.
التذكير بصمت الائتلاف ضروري للذين يرون في محاكمة إسلام علوش أمام القضاء الفرنسي إساءةً لصورة الثورة السورية، فالإساءة الحقيقية المستدامة أتت من الصمت الطويل على انتهاكات تلك الفصائل، ما شجعها على الاستمرار بها وشجع سواها على اقتفاء أثرها. من المحتمل جداً أن تستغل جهات فرنسية داعمة لبشار الأسد محاكمة علوش لوصم الثورة بأكملها، ودفاع وجوه المعارضة عنه واتهامهم القضاء الفرنسي سلفاً بالتسييس لن يساهم سوى في تعزيز تلك الوصمة، وأقل أثر له هو إظهار مناصرة المعارضة للعدالة الانتقائية بخلاف مطالباتها المتعلقة بالعدالة الانتقالية. ثم إن المسارعة إلى النيل من القضاء الفرنسي تضمر يقيناً بإدانة المتهم أمامه، وتسحب من الأخير قرينة البراءة التي يحظى بها أي متهم حتى تثبت إدانته، مثلما تسحب من الأول أحقيته بمقاضاة مجرمي الأسد.
قد يكون مؤسفاً أن المحاكمات الأولى الخاصة بالانتهاكات في سوريا اتجهت إلى أشخاص محسوبين على المعارضة، أمام القضاءين الألماني والفرنسي، والسبب إجرائي يتعلق بوجود المتهمين في متناول القضاء. وجه الأسف الأول الظاهر هو إفلات مجرمي الأسد من المحاكمة للأسباب الإجرائية ذاتها، أي بسبب بقائهم في سوريا التي أصبحت أرضاً للإفلات من العقاب. الوجه الأهم للأسف هو عدم اقتصار ارتكاب الانتهاكات والجرائم على سلطة الأسد، وهذا الوجه هو الامتحان الصعب الذي يواجه السوريين، ويضع حسهم تجاه العدالة على المحك.
لقد نُظر من قبل كثرٍ إلى المطالبة بمحاكمة جميع مجرمي الحرب في سوريا على أنها تساوي بين المجرمين، وتتجاهل خصوصية المجرم الأول والرئيسي، وحتى مفهوم العدالة الانتقالية بقي كأنما هو مختصٌ بالتغيير السياسي الذي يسمح بمحاكمة مجرمي الأسدية، أكثر مما يختص بمجمل الانتهاكات التي رافقت الصراع في سوريا وعليها. من جهة أخرى، كانت دائماً ثمة مخاوف من أن تبرر ارتكابات المجرمين الصغار جرائم المجرم الأكبر، لذا كان التستر عليها قائماً، مع أن التستر لم يؤدّ غرضه، فالفصائل التي ارتكبت الانتهاكات لم تبذل جهداً مقابلاً لسترها، ولم تكن حريصة في أي وقت على صورة الثورة، أو جعل الجريمة وقفاً على المجرم الأول والأكبر.
ثم إن الحديث عن كون العدالة هي المدخل للمصالحة الأهلية في سوريا ينطبق أيضاً على الانتهاكات المرتكبة ضمن “الخندق الواحد”، والتسامح الحقيقي لا يأتي إلا مقروناً بالعدالة، مثلما يتوجب أن يكون العفو طوعياً ومقروناً بتحديد المذنب ومسؤوليته؛ هذا من حقوق الضحايا التي لا ينبغي التهاون فيها. معرفتنا بصعوبة أو استحالة تحقيق العدالة يجب ألا تكون حائلاً أمامنا والمطالبة المستمرة بها. من هذه الناحية مثلاً، يمكن البناء على محاكمة إسلام علوش من أجل الإصرار على محاكمة المجرمين الكبار الموثّقة جرائمهم بتقارير دولية. علاوة على ذلك، يبدو هذا الطريق أحد أهم السبل لإعاقة التطبيع الدولي مع الأسدية، خاصة بعد فشل المسارين العسكري والسياسي في إسقاطها.
في الأصل، ولتعذر إقامة محاكمات سورية عادلة، يفترض الاحتفاء بأي مسار قضائي خارجي يُعنى بالملف السوري. انقسام السوريين حول محاكمة إسلام علوش يضرب الاعتبارات الأخلاقية التي ينبغي أن تجمعهم لصالح الانقسامات السياسية، والمصيبة ليست فقط في تغول السياسي على الأخلاقي، بل هي في ذلك السياسي قصير النظر الذي لا يدرك أنه ينتحر سياسياً عندما ينتحر أخلاقياً.
(المدن)