عبد الناصر العايد
في الرابع من آذار المقبل، تحلّ ذكرى مرور قرن على إعلان دولة السويداء من طرف سلطة الانتداب الفرنسي، والتي تبدل اسمها إلى دولة جبل الدروز العام 1927، والدولة هذه جاءت ثمرة “قضية درزيّة” في سوريا العثمانية، لم تسمح لها نخب الطائفة أن تأخذ مساحة كافية في الخطاب وفي صفحات التاريخ المكتوب، على أمل أن تُطوى نهائياً لصالح حالة إجماع واجتماع وطني، مثل الذي أدى إلى إعادة دمج دولتهم في الدولة السورية العام 1936.
لكن، وقبيل أسابيع من هذه الذكرى، ها هي “القضية الدرزيّة” في سوريا تعود إلى البروز برايتها ذاتها وخصوصياتها ورجال دينها، لتجهر الجماعة بما سكتت عنه لعقود، وهو أن الاندماج الوطني فشل، وأنها تضع نفسها خارج الجماعتين المتصارعتين على السلطة، والإطار الذي يضعه كل منهما كمحدد للوطنية التي ما زالوا يؤكدون دعمهم لها، لكن ليس بصيغتها “السنيّة” المرسلة على عواهنها، من خلال التذكير المستمر بهجمات داعش على المقرن الشرقي، ولا بصيغة “حلف الأقليات” الذي وقع الطلاق البائن معه منذ أن غدر صلاح جديد وحافظ الأسد بسليم حاطوم ورفاقه في الستينيات، إبان جولات التصفية المتتالية التي أفضت إلى انفراد العلويين واستئثارهم بالسلطة المطلقة، وبطبيعة الحال مروراً بانشقاق حمود الشوفي المدوي في الأمم المتحدة، وتمرد وتغييب شبلي العيسمي.
يمكن مقاربة احتجاجات أهالي السويداء، يوم الجمعة الفائت، أمام دار الطائفة الدرزية أو مقام عين الزمان، على ثلاثة مستويات مترابطة ومتشابكة، يصعب الفصل بينها سوى نظرياً. أولها، بطبيعة الحال، المعلن عنه، وهو تردي الحالة المعيشية وقرار سحب الدعم عن المواد الأساسية لشرائح واسعة من المواطنين. والخاص في السويداء هنا، أن سكان المنطقة الفقيرة بالموارد، وغير المستفيدة من قطاع الدولة الإداري بنسبة كبيرة، تعاني مشاعر الغبن النسبي والتمييز السلبي، والمؤدي إلى تهجير أبنائها، كما غالبية المناطق السورية، لكنه في السويداء ذا دلالة.
فقد يبدو الربط بين الحرمان والتهجير، غير مفهوم، ما لم يُنظر إليه من وجهة نظر الجماعة الطائفية، حيث يمثل العدد مسألة بالغة الحساسية لكل أقليّة. ويمكن أن نضيف إليها أن الدروز تحديداً، يثقل كاهلهم وعي شقي بكونهم جماعة فريدة وصغيرة على مستوى العالم، وليس في سوريا وحدها. فهم بلا امتداد ولا عمق استراتيجي، ولا ظهير يحميهم سوى عدد أبنائهم الموزعين على بضع قبائل تنتشر من الجليل إلى السويداء، يعتمد بقاؤها على عدد المدافعين عنها أمام هيمنة السنّة المستندين إلى متن العالم الإسلامي، والعلويين والشيعة الذين يلوذون بالصف الشيعي كلما حفت بهم المخاطر، وحتى المسيحيين الذين يتمتعون بحماية وانتباه العالم الغربي وروسيا معاً.
أما لماذا ينتهج النظام طريق تهجيرهم، فيرجع نشطاء من المنطقة ذلك إلى موقف الطائفة من الأحداث التي عصفت بسوريا منذ العام 2011، والتزامهم ما يشبه الحياد نحوها، وحفاظهم على عددهم وقوتهم. بعبارة أخرى، التنصل من “واجباتهم” كجزء من حلف الأقليات التي يزعم النظام تمثيلها وحمايتها، ويتذرع بذلك للإمساك بالسلطة، وكان يرتجي دعماً درزياً، ولو بالأقوال، وهو ما لم يحدث.
أما المدخل الثاني، فهو الفرضية المقابلة التي تقول بأن النظام تعمّد استفزاز أهالي السويداء بالقرار الذي شابته أخطاء واسعة في أسماء من أُسقط عنهم الدعم، وقد اعترف مسؤولوه بها، من دون أي اجراء لتلافيه، كأن يُعلّق تنفيذه إلى حين البت في الاعتراضات. ويقول أهالي السويداء أن نسبة الخطأ في مناطقهم لا تقارن بمثيلاتها في منطقة الساحل مثلاً. وتفسيرنا أن رأس النظام الذي سلبه شريكاه الروسي والإيراني معظم سلطاته وأدوات الحكم، يخشى أن يضعفه ذلك إلى درجة أن يصبح الاستغناء عنه في لحظة ما، أمراً يسيراً. ومن خلال استثارة هذه التمردات، سواء في السويداء، أو بين العلويين والمثقفين، التي لوحظت أيضاً في الآونة الأخيرة، يريد الضغط على حلفائه لترك شيء ما له، مُهدِّداً بإخراج الأمور عن السيطرة. وقد جاء الرد بتحرك الروس نحو المحافظة، للمرة الأولى، وإجراء ما يشبه الاستجواب للمحافظ حول حالات الحرمان الجائرة من الدعم. ويتوقع أن تتخذ القيادة الروسيّة مبادرة شبيهة بما فعلته في درعا المجاورة، لتسوية الأزمة مؤقتاً، لكنها لن تنجح عموماً إن لم تُلبِّ بعض مطالب النظام.
المستوى الثالث هو صراعات النفوذ الإقليمية. فقد اتهم بعض المحتجين، إيران، بالوقوف وراء تجويع المنطقة وإفقارها وتفريغها من سكانها المناوئين لها ولنفوذها. وفي الواقع، أن محاولات حزب الله والمليشيات الإيرانية، لم تتوقف، منذ بداية الثورة السورية، عن محاولة اختراق الكتلة الدرزية، وكان رأس حربتها سمير قنطار الذي قُتل في غارة إسرائيلية على حي جرمانا ذي الغالبية الدرزية في أطراف دمشق. وعلى ارتباط بهذا المستوى والمستويين أعلاه، جاءت أخبار الاجتماع الذي عقده مجلس الطائفة الدرزية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، يوم الجمعة الماضي، برئاسة الشيخ موفق طريف، والذي خلص “إلى ضرورة تجنيد الرّأي العالميّ وطرح موضوع الجبل عبر المحافل الدّوليّة”، و”استمرار تقديم المساعدات الإنسانيّة وضمان وصولها إلى المستحقّين، من أجل تيسير شراء الاحتياجات والمؤن الأساسيّة داخل الأراضي السّوريّة وتوزيعها هناك”، مضيفاً أن ذلك “امتداد للنّهج الجاري منذ انطلاق الأزمة واستمرار هذه الحملات الّتي لم تتوقّف حتّى يومنا هذا”.
يصعب تخيل حدوث صدامات مسلحة في السويداء. فلا النظام يجرؤ، ولا الدروز مستعدون، لكن تسوية كاملة للمسألة غير ممكنة أيضاً. المؤكد الوحيد أن القضية الدرزية في سوريا انبثقت مرة أخرى، ووضعت نفسها إلى جانب القضيتين السنيّة والكرديّة المكرستين في شبه دول، في شمال وشرق سوريا. وسيأتي يوم تظهر فيه أيضاً قضية علويّة، وربما تركمانية، لتعود سوريا بعد قرن من الزمان، إلى حال من التفكك أسوأ مما كانت عليه قبيل تأسيسها. وذلك كله بفضل ديكتاتورية متخلفة خرقاء، على استعداد دائم لتدمير كل ما يعترض طريق “أبدية” سلطتها، بما في ذلك حاضنتها الاجتماعية، بالمعنى الطائفي. وسيكون على السوريين انتظار ولادة جيل جديد من النخب والسياسيين، لهم مناقبية وبُعد نظَر سلطان الأطرش وأقرانه، لانتشال المشروع الوطني ودولة المواطنة، من قعر الخراب الذي يُدعى سوريا الأسد.
المصدر: المدن