جسر: متابعات:
تستمرّ منذ السابع عشر من تشرين الأول/أكتوبر الجاري المظاهرات والاحتجاجات الشعبية في لبنان، ويشارك فيها عشرات الآلاف من المواطنين والمواطنات المنتفضين ضد الحُكم بجميع أركانه. وتشير خريطة انتشارها وشعاراتها المرفوعة إلى تخطّي المنخرطين فيها، مؤقّتاً على الأقل، الكثير من الانقسامات التي وسمت الحياة السياسية اللبنانية منذ عشرين عاماً.
وإذا كان الوقت ما زال مبكراً لدراسة ما يجري وتقدير ما قد يُنتج من ديناميات جديدة في البلد، فإن الشهادات والمشاهدات من الساحات والطرقات حيث يتجمّع الناس تسمح بعدد من الملاحظات.
الملاحظة الأولى، ترتبط بأعمار أكثرية المتظاهرين ودلالاتها. فرغم وجود أفراد من أجيال مختلفة، طغت على المشهد حتى الآن شبابيّته، أي انتماء معظم من فيه إلى جيل لم يتكوّن تسييسه أو تماسه مع الشأن العام في مرحلة انقسامات العام 2005. وهو بهذا المعنى جيل ما بعد 8 و14 آذار، وما جسّدته ثنائيّتها من قسمة طائفية من جهة، وتموضعات إقليمية وخلافات حادة حول العلاقة بالنظام السوري من جهة ثانية. الجيل هذا، وتأسيساً على أول اقتحام لبعض مكوّناته للحيّز العام قبل 4 سنوات، خلال تحرّكات “طلعت ريحتكم” (إثر تفاقم أزمة النفايات)، يبدو أكثر تركيزاً على الشؤون السياسية والمعيشية اليومية من شؤون “المنازلات الكبرى”، ويبدو أقرب إلى قضايا الحرّيات العامة والخاصة ومواجهة الفساد والبحث عن انتزاع مقدار مقبول من العدالة الاجتماعية، وطي صفحة وجوه أفراد وعائلات سياسية وُلد ونشأ وبدأ البحث عن عمل في ظلّ وجودها في السلطة، رغم فشلها وقلّة كفاءتها وتعاظم فضائح الفساد والهدر داخلها ومن حولها.
الملاحظة الثانية، وبناء على سابقتها، تتعلّق بمستويين مختلفين من الحراك الواحد. مستوى يحمل إرادة تغيير للنظام السياسي بوصفه نظام تقاسم حصص ترعاه الطائفية وشبكاتها الزبائنية وتحول من خلاله من دون أي إصلاح جدي. وهذا يعني إسقاطاً لرموزه (رؤساء الجمهورية والحكومة والبرلمان) ولمكّوناته الحزبية بتلاوينها المختلفة، التي لم يسلم منها حزب الله هذه المرة، رغم التوجّس عادة من ذكره (لأسباب ترتبط بسلاحه وبخشية نقل نقاش التحرّك بأسره نحو الأبعاد الإقليمية الخلافيّة التي يمثّلها). والمستوى الثاني، اجتماعي، أو طبقي، تُظهره الكثير من الصور والشعارات والشهادات، ويمثّله فقراء وذوو دخل محدود ينخرطون في التحرّكات بسبب تراكم الأزمات الاقتصادية والمالية في السنوات الأخيرة، وسعي المسؤولين – المنتمين بأكثرهم إلى طبقات ميسورة أو ثريّة ورثت ثرواتها أو جمعتها عبر الريع السياسي والأنشطة الاقتصادية والفوائد المصرفية المحميّة بقوانين تضعها هي لنفسها – لفرض ضرائب جديدة. ولعلّ أكثر ما يستفزّ في هذه الضرائب هو التحجّج بأزمة والقول بضرورة مدّ خزينة الدولة بموارد يعرف الناس أنها كسابقاتها ستنحسر نتيجة النهب وسوء الإدارة والإصرار على خيارات اقتصادية عقيمة. وإذا كانت العلاقة بين السياسة والاقتصاد عضوية، وكذلك بين التعبئة السياسية والاجتماعية، فإن أسباب التحرّك ودوافعه وأهدافه ليست بالضرورة متناغمة بين المتظاهرين ضمن أولوية التغيير السياسي (والدفاع عن الحقوق والحرّيات وعن فلسفة المواطنة)، وأولئك المتحرّكين نتيجة وجع طبقي يجعلهم في مواجهة مباشرة مع ناهبيهم. ما يُوحّد مستويي الحراك اليوم هو فجور أطراف الحكم وسفاهتهم، وما قد يفرّقهما هو صعود خطاب شعبوي تبسيطي يضع الحرّيات والتغيير السياسي الجدي في مواجهة أولوية تحسين الأوضاع الاجتماعية. وثمة تيّارات (داخل السلطة أو على صلات بها) يمكن أن تحمل خطاباً مشابهاً يذهب حدّ المناداة بحكومة عسكرية وبحال طوارئ.
الملاحظة الثالثة، أن خريطة المظاهرات تظهر انتشاراً للتجمعات والمسيرات غير مسبوق في لبنان منذ سنوات طويلة، وهذا يعني لا مركزية للحراك ويُنتج شعارات له متنوّعة، وباستهدافات سياسية تخصّ “زعماء” طائفيين – سياسيين في كل ناحية أكثر من غيرهم. وفي هذا جديد يُعيد حيوية إلى الأطراف ويقلّص من احتمالات توظيف الطائفية والنزعات الجهوية لإجهاض التحركات الشعبية المركزية في بيروت. ولعل المشهد الجنوبي تصدّر المشاهد المناطقية بعد بيروت، لتركيز هجومه في صور والنبطية تحديداً على الثنائي الشيعي حركة أمل – حزب الله، مع هجاء حاد ضد رئيس أمل والمجلس النيابي نبيه بري (وزوجته) وضد عدد من مسؤولي حزب الله لم يسبق أن حدث إلى هذا الحدّ في مظاهرات جنوبية حاشدة في العقود الأخيرة.
الملاحظة الرابعة، ترتبط بمشهدية التظاهر والتجمّعات والأغاني وحركة الأجساد، وفيها تشابه مع مظاهرات الثورات والانتفاضات العربية في موجتيها الأولى والثانية (في سوريا ومصر وتونس ثم في الجزائر والسودان والعراق)، مع إضافتين ترتبطان بحجم الحضور النسائي الاستثنائي في لبنان وبانعدام السرية أو الخوف من القمع (على الأقل في اليومين الأوّلين) والاحتفالية والفخر اللذين يرافقان ذلك على وسائل التواصل الاجتماعي (وشهدنا في الجزائر ما يشبه هذا، رغم التصاعد التدريجي للتضييق على المتظاهرين هناك في الآونة الأخيرة).
الملاحظة الخامسة، وارتباطاً بسابقتها، تتعلّق بعناصر تشابه هي هذه المرة بين ردّ السلطات اللبنانية وأتباعها على المظاهرات وردود بعض الأنظمة العربية الساقطة (تونس) أو المستمرة (مصر والجزائر) على معارضيها. وعنصرا الردّ هما سفاهة التصريحات والمكابرة ونفي المسؤوليات وتقاذفها بدايةً (عون/ باسيل والحريري)، ثم الانتقال إلى العنف والتخويف من الفوضى واستقدام “شبيحة” أو “بلطجية” أو ميليشيات لفضّ التجمّعات بالقوة. وإذا كان العنف في لبنان ما زال محصوراً ببعض الممارسات البشعة لجهة التعدّي على متظاهرين وتوقيف عدد منهم وإذلالهم من قبل الأجهزة الأمنية والعسكرية، أو السكوت عن ضرب ميليشياويين لمتظاهرين آخرين، فإن ارتفاع وتيرة القمع مع استمرار التحرّكات الشعبية وارد جداً، خاصة أن عقليّته قائمة في بنية النظام وثقافة أبرز أركانه.
التغيير الصعب والإصلاح المستحيل
على أن الأسئلة السياسية التي تطرح نفسها اليوم، في ما هو أبعد من الملاحظات على ديناميات الحراك وخصائصه وآلية مواجهته السلطوية، تقوم على فرضيةٍ هي في الحقيقة معضلة كل تحرّك “ثوري” في لبنان. ذلك أن تغيير النظام فيه يبدو صعباً للغاية، أما إصلاحه فيبدو مستحيلاً. في الحالة الأولى، تكمن صعوبة التغيير في قدرة النظام على استيعاب الصدمات الدورية والعودة بصيغة تبدو أقلّ تهميشاً لبعض مكوّناته أو لبعض الجماعات اللبنانية المشتكية من جوره. وهذا لا يعني قدرته على التجدد، فهو بالفعل لم يتجدّد كفلسفة وممارسة حكم منذ نشأته، وإنما قدرته رغم جموده على التكيّف مع الضغوط ثم استغلال الطائفية و”حقوق الطوائف” لتطويل عمره والاستحواذ على مشروعية شعبية يقتطعها من أجسام الطوائف هذه على اختلافها وتناقض نزعاتها وتحالفاتها في أحيان كثيرة. ومع أن الإفلاس المالي والاقتصادي يصعّبان عليه المهمة حالياً ويضعفان تغذية شبكاته الزبائنية، فإن احتياطي الطائفية يمكن أن يلعب دوراً معيقاً للتحرّك ومصعّباً لكل عملية تغيير.
أما في الحالة الثانية، أي استحالة الإصلاح، فلا عجب ألا يصلح المستفيدون من النظام نظامهم، وألا يكافح المستفيدون من الفساد فسادهم، وألا يترك الموجودون في السلطة مواقعهم تجاوباً مع آليات إصلاح تطيح تحديداً بما يسمح لهم بالاستحواذ على هذه السلطة وتوزّع مغانمها. وإذا كانت بعض محاولات الإصلاح ومطالبه قبل عقد أو عقدين مفهومة ومبرّرة، فهي أصبحت اليوم أوهاماً بعد تكريس تفاهمات وتحالفات بين المتشاركين في الحكم (في لحظة إفلاس الدولة وتراجع العون الخارجي) تفوق بأهمّيتها كل ما يفرّقهم. لذلك، لم يعد النجاح القطاعي أو الموضعي (كما في حالات سابقة) كافياً لإطلاق ديناميات جديدة، ولم يعد من بديل غير إنزال هزيمة ولو مرحلية بالنخبة السياسية الحاكمة، كمثل إلزام الحكومة بالاستقالة (والتشديد أنها حكومة “العهد”) بمعزل عمّا إذا كان الحراك الشعبي سيفلح مع الوقت في إنتاج نخبه لمقارعة داعميها انتخابياً وسياسياً في الاستحقاقات المقبلة…
يبقى أنه وبمعزل عمّا سيحصل وعن مؤدّيات ما يجري وما قد يجري في الأيام والأشهر المقبلة، ما حدث حتى الآن هو بلا شك انتفاضة استثنائية في تاريخ لبنان الحديث ضد حكم استثنائي في انحطاطه. ويصعب ألا تكون لكل هذا آثار ما سياسية وثقافية-سياسية في المديين القريب والبعيد.