برهان غليون
طرحت، في إحدى مقالاتي السابقة، سؤال: “هل نستطيع أن نخرج من خندق المعارضة والموالاة، ونفكر معا كشعب؟”. وفي سياق المراجعات المستمرة للتجربة الماضية والمأساة التي لا يزال السوريون يعيشونها، ركّز كثيرون، من محللينا، عن حقّ على غياب هذه الرابطة السياسية، أي الشعب، لكنهم أرجعوا أسباب هذا الغياب إلى تعدّد الهويات الثقافية: الطائفية والأقوامية والمناطقية وتنوعها. والحال أن هذا التنوع ليس محدثا، ولا وليد العقود الأخيرة. كما أن التنوع والتعدد الثقافي والأقوامي ليس سببا في غياب البنية السياسية، أو حائلا بالضرورة دون بروز كتلة شعبية رئيسة، حاملة مشروع دولة بمؤسسات دستورية وسيادة شعبية وسلطة القانون. بل قد تكون هذه التعددية من بين الأسباب المشجعة على تقدّم الدولة السياسية، لأنها الوسيلة الوحيدة لضمان التعايش فيما بينها، والتعويض عن غياب اللحمة أو العصبية الواحدة الدينية أو الأقوامية. وهذا هو أساس ومبرّر نشوء الدولة الأمة التي لا علاقة لها بدولة القوم والطائفة، وإنما وجدت كي تعطي للشعوب فرصة تجاوز مشكلة التعدّدية القومية والمذهبية، التي لا يمكن أن يخلو منها مجتمع تاريخي، والالتقاء في فضاء إضافي مختلف، هو فضاء السياسة وعالم القانون والحقوق المتساوية والمشاركة في السيادة، أي في الحرية المدنية.
وهذا ما حصل في سورية نفسها بالرغم من الظروف الكارثية التي رافقت ولادتها في فوضى الحرب العالمية الأولى وصراعات القوى الدولية، فلم تكن سورية الخارجة من حطام الدولة العثمانية، والتي كانت بعض هذا الحطام، أقلّ تنوعا ثقافيا ومذهبيا ودينيا وجغرافيا واجتماعيا، عندما نجحت نخبها الاجتماعية والسياسية في تنظيم نفسها في جمعياتٍ سياسية، وفي عقد تحالفات مع النخب الحجازية، المختلفة عنها في ثقافتها وتقاليدها، وطمحت إلى إقامة مملكة عربية تضم جميع أراضي آسيا الناطقة بالعربية، والتحرّر من نير الإمبراطورية العثمانية. ولم تكن أكثر انصهارا ثقافيا واندماجا اجتماعيا، عندما ولدت بعد هزيمة ميسلون دولة طرحا: مقطعة الأوصال، مشوّهة ومهيضة الجناح، منتزعة من سياقها القومي والتاريخي والجغرافي، وعرضة لحروب تقاسم المصالح ومناطق النفوذ بين الدول الاستعمارية. وما كان جمهورها أشد وعيا حديثا أو انفتاحا على ثقافة العصر التحرّرية عندما خاضت نخبها الصراع ضد مشاريع التقسيم الاستعمارية، وفرضت إعادة توحيد الدولة السورية الصغيرة المقسمة، وأطلقت، منذ 1925، ثورتها الاستقلالية ضد سلطات الاحتلال الفرنسية. ولا أقل تعدّدية اجتماعية وطائفية ومناطقية، عندما نجحت هذه النخب ذاتها في تشكيل الكتلة الوطنية التي حققت الاستقلال، وأرست قواعد دولة حديثة وسلطة دستورية ونظام حكم ديمقراطي. وكانت في ذلك أسبق من أكثر دول عصرها الناشئة، قبل أن ينقضّ عليها سيف الانقلابات العسكرية، والذي لم يكن في معزل عن الصراعات الدولية على الهيمنة الإقليمية أيضا، فكيف نجح السوريون منذ الحرب العالمية الأولى في التوصل إلى تفاهمات أنتجت حركة وطنية قوية بينما يظهرون عجزا لافتا اليوم، بعد قرن من الخبرة السياسية والاندماج الاجتماعي والاقتصادي والازدهار الثقافي وتجربة الحياة الوطنية المشتركة، عن تحقيق مثل هذه التفاهمات، حتى ليكاد الشك يراود أغلب مفكريهم فيما إذا كانوا يشكلون شعبا أو يمكن أن يشكلوا شعبا في المستقبل؟
جمهورية الأسد والمركب العسكري الأمني الحاكم
لا أعتقد أن مشكلة سورية الرئيسية تكمن في تنوع أطيافها، ولا في وجود الكرد والعرب والشركس والأرمن والتركمان والشيشان والعلويين والدروز والإسماعيليين والإيزيديين والسريان والآشوريين والمسيحيين والمسلمين وغيرهم الذين شكلوا نسيجها، ولا يزالون يعيشون فيها معا منذ قرون طويلة. بالعكس، هذه التعدّدية هي مكمن قوتها ومصدر ثرائها الروحي والثقافي والاجتماعي. وهي التي صنعت شخصيتها وصاغت عبقريتها في الماضي والحاضر، والتي جعلت منها ملتقى للحضارات، ومثالا للتعايش، ونموذجا لروح التمدّن والتعامل السمح والمرن وكرم الضيافة الذي ميز العلاقات بين جماعاتها في كل العصور. وجعل شعبها يستقبل مليون لاجئ عراقي في بداية هذا القرن، وأكثر من مليون لبناني من الذين هربوا بأنفسهم من الحرب الأهلية في القرن الماضي، من دون أن يتشرد أحد منهم أو يضطر إلى العيش في مخيمات. وهي التي تفسّر نباهة أبنائها وموهبتهم اللافتة في التعايش والتكيف مع الثقافات والمجتمعات الأخرى.
كما لا أعتقد أن مشكلة سورية الراهنة والاستعصاء الذي تعيشه على جميع الأصعدة تكمن في وجود أكثريةٍ وأقليات، ولا إلى تحكّم جماعة أو طبقة أو طائفة أو ثقافة أو ديانة بالجماعات والطوائف والطبقات والديانات والثقافات الموجودة فيها جميعا. إنها تكمن في تمكّن نخبة عسكرية من السيطرة على مقاليد السلطة، بل على جميع السلطات السياسية والاقتصادية والثقافية والعقائدية والرمزية، وتجييرها لصالح بناء مركب عسكري أمني، استقلّ بنفسه عن المجتمع، وأصبح جسما طفيليا غريبا عنه يتحكّم به من فوق، ويتماهى مع الدولة التي استعمرها وحوّلها إلى قوقعةٍ يحتمي بها، ولبس لبوسها، وجيّر البلاد والعباد لخدمة مصالحه، بمن فيهم القواعد الاجتماعية الأهلية، الريفية والعشائرية والطائفية التي حوّلها إلى خزّان بشري، يستمد منه أطره العسكرية والمدنية.
بدأ الصعود التاريخي لهذه النخبة الاجتماعية الهجينة بعد أقل من ثلاث سنوات على إعلان الاستقلال بانقلاب عام 1949. وتطوّرت شخصيتها وهويتها الخاصة نخبة حاكمة ومسيطرة عبر مراحل متعاقبة، قضي في بداياتها على الثقة بالأحزاب السياسية المتناحرة، قبل إقصائها واعتقال قياداتها وتشريدها، ثم سحق ما تبقى من الطبقة السياسية التقليدية والنخب الليبرالية وتشويه صيتها وسمعتها. وقد برّرت النخب العسكرية المتعاقبة سيطرتها على مقاليد السلطة وانفرادها المديد بموقع السيادة بذرائع شتى، أولها الدفاع عن مصالح الجيش ضد السياسيين الفاسدين، كما زعم حسني الزعيم، ثم باسم الوطنية ومقاومة الاحتلال والاستيطان اليهودي في فلسطين، وفيما بعد باسم القومية، ودفاعا عن مشروع الوحدة العربية ومحاربة الرجعية والعمالة للأحلاف الأجنبية، ومنذ انقلاب البعث في 8 مارس/ آذار 1963، باسم الاشتراكية الحقيقية والدفاع عن حقوق العمال والفلاحين ضد الإقطاعيين والبرجوازيين، ثم في عهد الأسد الأب باسم الاستقرار وبسط الأمن والسلام الأهلي والحفاظ على اللحمة الوطنية ضد حركات الاحتجاج والتمرّد الإسلاموية، وأخيرا باسم الحداثة والمدنية وحماية الأقليات المهددة من “أكثرية” “محافظة ورجعية وحالمة بإرجاع التاريخ إلى الوراء والانسحاب من العصر”.
وفي كل انقلاب، كانت النخبة العسكرية/ الأمنية تتعلّم من تجربتها السابقة، وتعيد ترتيب أوضاعها لتطوير وسائل السيطرة على الدولة والمجتمع. ونجحت، خلال السبعين سنة الماضية، في تنقية صفوفها وتفريغ الجيش من تعدّديته الاجتماعية والمناطقية بالتصفيات المتتالية والقضاء على مجموعات الضباط من أصحاب التوجهات السياسية المنافسة: اليسارية والليبرالية والقومية والناصرية. وساهمت الصراعات الداخلية لحقبة “البعث” ذاتها حتى عام 1966 في إزاحة مجموعات أخرى من الضباط الذين لا يدينون بالولاء “للجنة العسكرية”، أو الذين لم يظهروا ولاءهم الكامل لقادتها. وزادت واحدية الجيش بعد التصفيات التي أعقبت القطيعة بين القيادة القومية والقيادة القطرية للبعث الحاكم، حتى استكملت على إثر تفجّر الصراع بين أعضاء “اللجنة العسكرية” أنفسهم، فكان النصر في هذا الصراع لحافظ الأسد الذي ورث السيطرة على مؤسسة عسكرية وأمنية وحزبية مطهرة من العناصر غير “المتجانسة”، وجاهزة لبسط سلطتها وسيادتها على البلاد، لتدشين حقبة جديدة من إلغاء الحياة السياسية في الدولة والجيش والمجتمع، والانفراد بالحكم من دون منافس، ومن دون الحاجة إلى أي مراجعةٍ لتجارب الحكم الماضية وإخفاقات “البعث” والحكم العسكري السابق والانفصال والهزيمة العسكرية في حرب يونيو/ حزيران 1967. والواقع أن عقدين من التخبط السياسي والعسكري كانا كافيين لتفريغ المجتمع السوري من أي قدرة على التفكير والتخطيط والمقاومة، وتسليمه طائعا باستيلاء المنظومة الجديدة العسكرية والأمنية والحزبية على القرار الوطني.
كانت سورية في نظر الأسد الغنيمة التي ربحها في صراعه من أجل السيطرة على هذه المنظومة السلطوية ضد خصومه من الناصريين والبعثيين القوميين والقطريين والليبراليين. ولم يكن أمامه خيار للحفاظ عليها سوى الاستثمار في تطويرها وتوسيع قاعدتها، والسهر على انسجام عناصرها وتطهيرها الدائم من أي اختلافات أو تناقضات داخلية محتملة. ولضمان السيطرة الكلية عليها ومنع أي طامح من اختراقها أو تحدّي سيطرته عليها حوّلها الأسد إلى حرس بريتوري، وأخضعها لسلطته الشخصية المباشرة، وقسّمها سرايا وكتائب وأجهزة خاصة، سلم قيادتها لأفراد العائلة وأبناء العشيرة وحلفائها من العشائر الأقرب، ووضع نفسه في موقع الأب الذي يدير جميع أفرادها. ليتفرغ بعد ذلك لبناء تحالفاته الإقليمية والدولية التي تضمن له سلامة الحدود الخارجية. وفي هذا السياق، تشكل مجتمع الدولة الجديد الذي لن يمر وقت طويل، قبل أن يطلق عليه اسم دولة الأسد، والذي احتل فيه المركب العسكري الأمني مركز القلب في المنظومة الجديدة، وما لبث حتى تماهى مع الدولة، واخترق منظمات المجتمع المدني، وهيمن على قراره، في النقابات والأحزاب والنوادي والجوامع والكنائس، قبل أن يفرض عليها القيادات التي تتماشى مع مشروع سيطرته الدائمة والشخصية. ولم يترك أمر هذا المشروع للإرادة وحدها، ولكنه عمل على حفره في البنيتين، القانونية والسياسية، للدولة. فجعل من قانون الطوارئ، أو الاستثناء، القانون القاعدة، وحوّل الحكم المدني إلى حكم عرفي دائم، وعزّزه بالمادة الثامنة من الدستور التي قوننت سياسة الإقصاء الشامل للمجتمع، وقصرت حق الترشح لمناصب المسؤولية في أي ميدانٍ على عناصر المنظومة الحاكمة.
لم يواجه مشروع الأسد مقاومة تذكر. بل ربما راهن عليه قطاع واسع من الرأي العام لتحقيق الاستقرار الذي حلم به مجتمع الأعمال المدمّر والمعطل منذ سنوات طويلة. وأعلن الجمهور عن ولائه للوضع الجديد بشعار: طلبنا من الله المدد فأرسل لنا حافظ الأسد. وما كان أمام هذا الأخير إلا أن يحشد ما يشاء في حجر ما أصبح رميما شعبيا، بعد سحق المقاومات الناصرية، وموت جمال عبد الناصر، وتبخّر النخبة الليبرالية التقليدية، واختيارها النفي الذاتي، بدل الموت في السجون الأسدية وإلحاق ما تبقى من التنظيمات القومية واليسارية به باسم الجبهة التقدّمية. وقد أدرك المجتمع الذي أفرغ من نخبه ورموزه السياسية والفكرية والنقابية أنه أصبح مكشوفا، ومن دون حماية، أمام سلطة كاسرة تحولت خلال سنوات، بموارد النفط والمساعدات الخليجية، إلى آلةٍ جهنميةٍ للسيطرة تجمع بين سلطتي العنف والمحسوبية معا، لا يمكن لأحد أو لجماعة، مهما كانت منظمة، أن تقف في وجهها. وعلى رأس هذه السلطة الاستثنائية يتربّع حافظ الأسد “ملكا إلها”، ومن حوله أعضاء أسرته وأبناء العائلة الأقرب من الإخوة والأبناء والأخوال والأعمام وأبنائهم وبناتهم وأبناء العشائر القريبة والحليفة، ما أضفى على “دولة الأسد”، كما تم تعميدها منذ بداية السبعينيات، طابع الإمارة العائلية التي يحيط بها حلفاء العائلة من الرتب العسكرية العليا وكبار الضباط ممثلو العشائر والقبائل والوجاهات المحلية.
هكذا تشكّل جسم عسكري أمني سياسي معا، يملك قوة سيطرة استثنائية وشاملة، يعمل كتلة متراصّة لا تقبل تعدّدا ولا انقساما ولا يشوبها تردّد، ولا تتأثر بأي ضغط لا من داخل صفوفها ولا من خارجها. ولا تعتمد في وجودها على أي فئة أو طائفة، ولكنها هي التي تخلق الفئات والطوائف وتستخدمها. وهي من القوة والاستقلال الذاتي، بحيث لا يستطيع أي مجتمع مدني أن يواجهها، بل أن يتحرّك خارجها أو يؤثر في قراراتها مهما فعل. وزاد من تفرّدها واعتدادها بقوتها واستقلالها تجاه كل ما عداها جمعها موارد السلطة بكل أشكالها في يد شخصٍ واحد، يفوض فيها من يراه مناسبا من أهل الثقة من أبنائه وإخوته وأقربائه وأتباعه ومواليه، لا يشاركه فيها أحد، ولا يختلف معه في تقدير أمورها خبير أو مستشار سياسي أو دبلوماسي، فهو الذي يقرّر وحده، وحسب إلهامه في كل الشؤون: العسكرية والسياسية والاقتصادية والمالية والإدارية والعقائدية. وهو الذي يعطي توجيهاته للنخب المدنية، ويحدّد لهم مهامهم وحدود صلاحياتهم، بمن فيهم رجال الدين والمفكرون والصحافيون والتجار والمستثمرون وغيرهم.
قانون العنف والإقصاء والعنصرية الاجتماعية
كانت نظرية فصل السلطات التي عمل على نشرها الليبراليون، وكرس لها مونتسكيو الكتاب الشهير “روح القوانين” (نشر عام 1748) أحد أهم المصادر الفكرية التي ساهمت في تقويض السلطة الملكية المطلقة في القارة الأوروبية، فقد ألغت قاعدة تقسيم السلطة وتوزيعها بين مؤسسات متعدّدة، تنفيذية وتشريعية وقضائية، مستقلة بذاتها، وإقامة التوازن فيما بينها بحيث تحدّ واحدتها جموح الثانية، إمكانية استفراد فرد أو جماعة بها واستخدامها ضد الأفراد والجماعات الأخرى. ولذلك اعتبر مبدأ توزيع السلطات وتمييزها بعضها عن بعض، من ليبراليي الغرب منذ عصر النهضة، الأساس القانوني والسياسي لتفكيك نظام الاستبداد والضامن الرئيس للحريات السياسية.
ما قام به المركب العسكري الأمني هو بالضبط قلب هذا المسار التاريخي للتحرّر السياسي رأسا على عقب، والعمل بجميع الوسائل، وعلى جميع المستويات، البنيوية والظرفية، على دمج السلطات الاجتماعية كافة، وليس سلطات الدولة فحسب، وعلى إعادة جمعها وحلها في سلطة واحدة (بالضرورة أسطورية)، ووضعها في عهدة شخص فرد، وليس في أيدي مكتب سياسي أو منظمة حزبية فحسب، كما درجت على ذلك النظم الشيوعية. وقد أصبح هذا الفرد، بالفعل والواقع والمبدأ، فوق البشر، وصاحب الفضل في الإبقاء على حياتهم أو القضاء بموتهم. فإلى جانب آلة العنف العسكرية التي يملك وحده مفتاحها، والتي وجه مدافعها وصواريخها نحو المدن ونقاط تجمع السكان الرئيسية، وأجهزة الأمن التي تمدّ حدود سلطته إلى أبعد نقطة من أراضي الجمهورية، انتزع الأسد، بإرادته وتسليم جميع من حوله والرأي العام أيضا له، سلطة القرار في جميع الشؤون العامة: الاقتصادية والسياسية والدينية والثقافية والإعلامية، حتى أصبحت نخب المجتمع بكاملها، بمثقفيها ورجال أعمالها وقضاتها وسياسييها وعساكرها ورجال دينها من محاسيبه ومدينة ببقائها لحمايته. فصار الضامن والكافل الوحيد لوجود النظام الاجتماعي واتساق علاقات الأفراد والجماعات فيما بينها. وصار الخوف عليه مساويا للخوف منه، حتى أصبح الناس يخشون فقدانه، ويعتقدون بالفعل أن رحيله يفتح الطريق حتما على المجهول، ويؤدّي لا محالة إلى انفراط العقد الاجتماعي وانهيار المجتمع ذاته.
والواقع أنه، في شروط التقدّم التقني والعلمي الراهنة، ما كان يمكن لمثل هذا الدمج بين جميع السلطات، وصبها في سلطة نوعية واحدة تخضع لإرادة رجلٍ فرد، منزّه ومرفوع فوق النظام والدولة والقانون نفسه، إلا أن تنتج قوة سيطرة لا محدودة، ليس على جسد الأفراد وعلاقاتهم وإنما، أكثر من ذلك، على عقولهم ونفسياتهم التي أصبحت متعلقة به، ومشلولة الإرادة بانتظار إشارته وكلمة منه. وقد تماهت سلطة الأطر التنفيذية من رجال أمن وإدارة ودين وإعلام مع هذه السلطة شبه الإلهية، حتى بدت حياة الأفراد من عامّة الشعب، ومصالحهم وأرزاقهم ووجودهم نفسه، لا قيمة لها ولا تستحق النظر أو الذكر، وبدوا هم أنفسهم زوائد وعالة لا ذات لهم ولا قيمة. وأي نزوع لديهم لإبراز أي درجة من الإرادة أو المطالب أو المطامح أو الآمال أو الأحلام، يشكل مساسا بسيادة الأوحد وتشكيكا بقدسية سلطته وحقه الطبيعي في الحكم والإدارة. ومن وراء هذه السلطة الكلية التي مثلها الأسد، وبالعمل الدؤوب على تعظيم قدراته التي وصفها الشيخ محمد رمضان البوطي في كلمته التأبينية بأنها لا يمكن أن تكون طبيعية، ولقاء عديد من المجازر الاستثنائية في وحشيتها، تمكّنت الطبقة العسكرية الأمنية من اجتياح المجتمع وإلحاقه بها، بطوائفه وقبائله ومجتمعاته المدنية والريفية، وتحويل الدولة إلى أداة سيطرة بالقوة، وجعل الانتماء لها ولاء للملك الإله، ونزعا للهوية الفردية والجماعية، وسلبا للإرادة والذاتية.
هذا الغول الرهيب الذي صارت إليه السلطة في سورية هو أصل الخراب الذي ضرب الجسم الوطني السوري، والذي انتهى بما يشبه يوم القيامة، عندما اصطدمت سيطرة هذا المركّب الحاكم بإرادة شعب صحا على وقع أجراس ثورات الربيع العربي من ثباته، ومن “الكوما” التي كان غارقا فيها، وقرّر أن يستعيد جزءا من إنسانيته وحقه في الكلام، فأسقط عليه جبل من نار شاركت فيه، كما لو كانت وحشا خرافيا هائلا، جميع الأذرع العسكرية والأمنية والإدارية والإعلامية لطبقة تماهت مع الدولة/ الوحش، ولم تعد ترى نفسها قادرةً على الحياة من دونها ولا تقبل أن تفاوض على أي ذرة منها. وهذا هو مضمون شعار الأسد أو لا أحد، أو الأسد أو نحرق البلد.
لم يولد هذا الغول من عقل الأسد مباشرة، ولم يتخلّق نتيجة مواهبه الخارقة. إنه تشكّل خلال الصراعات السياسية والاجتماعية والاستراتيجية التي لم تجد حلولا لها، ومن المخانق والطرق المسدودة التي قادت إليها، والنظريات والأطروحات التي كرّست انسدادها، والظروف الاستثنائية الداخلية والخارجية التي رافقت تشكيله، وأتاحت لهذا المركّب أن يتكون، ويصبح إطار التنظيم الرئيس لمجتمع جرد من هويته، والطبقة/ النخبة، أي الكتلة الوحيدة المتماسكة في مجتمع هشيم، رميم مجتمعات محلية وطبقات وأشباه طبقات مخضعة ومفقرة، من دون رأس ولا هياكل ولا وجهة ولا قوة محرّكة. ولا يتوقف هذا التماسك على تأييد جماعة أو طائفة، وإنما يستند إلى الاحتكار الشامل للقوة ووسائل العنف، وما يبعثه من اعتقاد بالتفوق والقدرة الفائقة على فرض الذات وإخضاع الخصم مهما كان. وبالمثل، لا تعكس ممارسات أعضاء هذا المركّب التي تجمع بين استباحة حقوق المخضعين، والمبالغة المقصودة في القهر والإذلال، والاستهزاء بمعنى القانون، والتحدّي الاستفزازي للقيم الاجتماعية والدينية والأخلاقية للجمهور الواسع، ثقافة أي طبقة اجتماعية عرفت عبر التاريخ، ولا تستمد وحيها من أي عقيدةٍ أو مذهبٍ أو ثقافة، حتى البدائية منها. ولا تعبر عن أو تستلهم أي فكرة قومية أو اشتراكية أو دينية، بمقدار ما تعكس عدمية فكرية وأخلاقية تبيح أي محرّم وتضرب عرض الحائط بكل القيم والمبادئ والمذاهب، الحديثة والقديمة، الدينية والعلمانية. عقيدته الوحيدة هي العنصرية التي يبعثها احتقار الضعف والحاجة لإعادة إنتاج العلاقة بين الشعب والنخبة الحاكمة علاقة عبيد بأسياد.
من دون تفكيك هذا المركّب الطفيلي، الذي دمّر المجتمع والدولة معا وحل محلهما، والذي لا ينتج إلا العنف والفساد، لا يمكن لدولة أن تولد من جديد، ولا لمجتمع أن يستعيد حياته وانسجام أعضائه. فنحن لسنا هنا أمام طبقة برجوازية أو عاملة ولا فلاحين ولا طوائف وأديان ومذاهب وأحزاب، ولا حتى أمام مانديلا ودو كلريك، إنما أمام ورم خبيث فتك بالجسم السوري، وأودى به، دولة وشعبا، إلى الموت والهلاك.
المصدر: العربي الجديد