جسر: رأي:
اعتدتُ أن أقول لمحاوري الدوليين، منذ تأسيس المجلس الوطني السوري في أكتوبر/ تشرين الأول 2011، إن القضية ليست مشاركة المعارضة في الحكم، مع الأسد أو من دونه، وإنما الرد على تطلعات الشعب، والانتقال به نحو حياةٍ ديمقراطيةٍ حرّة وعادلة. وإذا أمكن هذا الانتقال من دون مشاركة المعارضة، فالمعارضة في غنىً عنها. المهم أن تتغيّر قواعد الحكم الاستبدادي المدمّر السائد التي صمّمت لوضع الدولة والمجتمع معا ومواردهما في خدمة سلطة الحزب الواحد، ثم سلطة أسرة الأسد، والقائمة، بكل بساطةٍ، رسمياً وقانونياً، على الإقصاء العلني الكامل للشعب، والتعقيم السياسي الكلي للمجتمع والفرد، وحكم الإرهاب والإهانة والإذلال المتعمد لتحقير الفرد في نظر نفسه، وانتزاع روح السيادة منه، وتدجينه وتطويعه لقبول العبوديّة والتسليم للقوة الغاشمة. دور المعارضة التي لا تريد شيئاً لنفسها، ولا ينبغي أن تفعل، لا بوجود الأسد ولا بغيابه، هو اليوم أن تضمن للشعب توفير شروط ممارسته حقّه في تقرير مصيره بنفسه. وهذا يعني مساعدته على الوصول إلى وضعٍ يسمح له، من خلال انتخاباتٍ حرّة ونزيهة، باختيار ممثليه الحقيقيين، وإرساء قاعدة قوية للحكم التمثيلي والديمقراطي في البلاد.
(1)
هذا يعني أن المعارضة ليست الموضوع، وليست الطرف المهم في المباحثات والمفاوضات القائمة، التي قبلت المعارضة الدخول فيها، منذ تأييدها مبادرة جامعة الدول العربية وبيان جنيف 1 في يونيو/ حزيران 2012، وبعثة كوفي عنان العربية الدولية. الموضوع والطرف هو الشعب السوري، وتطلعاته وحقوقه ومكانته، ودوره في النظام السياسي المطلوب إنشاؤه على أنقاض حكم الديكتاتورية الدموية. ومسؤولية المعارضة أن تواكب ثورة شعبها، وتثمّر تضحياته الغزيرة، والتي لم تتوقف منذ سبع سنوات، من أجل الخلاص والتحرّر من نيْر سلطةٍ تحولت إلى نظام احتلال داخلي، وواجبُها أن تسعى إلى تأمين الدعم العربي والدولي في سبيل تسريع عملية الانتقال، والتحول نحو نظام جديد يضع حدّاً للحرب وسفك الدماء، ويردّ على تطلعات السوريين نحو الحرية، ويليق بتضحياتهم وكفاحهم.
ولذلك، لم يكن هدف المفاوضات مع النظام، واليوم بالأحرى مع أسياده الروس، المساومة على حق الشعب السوري في الانتقال إلى نظام ديمقراطيٍّ يساوي بين جميع أبنائه، ويعترف
بالمواطنة وحقوقها الواحدة للجميع، وإنما التفاهم على آليات وصيغ مرحلة الانتقال التي تنتهي مع تنظيم أول انتخابات تشريعية. وعندئذ، يكون الشعب حرّاً في تقرير مصيره، وانتخاب من يمثّله، ومن خلالهم، تحديد مضمون النظام الجديد النهائي، والتعديلات الدستورية، والتسويات السياسية، والتفاهمات الاجتماعية المطلوبة بالتأكيد لمعالجة آثار الحرب، وتطمين الأطراف والجماعات، أقليات قومية ومذهبية ونوعية ومهنية وغيرها، على مصيرها وضمان حقوقها وأمنها.
ولكن هدف الروس كان ولا يزال أن يضحّوا بقضية الشعب في الخروج من حكم الطغيان، لصالح فكرة حكومة وحدةٍ وطنيةٍ تحافظ على النظام مع بعض الإصلاحات الدستورية الشكلية، في الوقت الذي لا يعني الدستور شيئاً في مثل هذا النظام القائم على الهوى والعصبية والعلاقات الشخصية والسلطة الفردية المطلقة والمقدّسة. ولذلك لا يوجد هناك أي إمكانية للتسوية، أو للحل الوسط، بين المنطقَين، منطق الحفاظ على النظام بمشاركة المعارضة أو بشراء بعضها أو بخيانة آخرين، لا فرق، ومنطق تلبية مطالب الشعب وتطلعاتّه نحو السيادة والحرية.
منذ أول لقاء مطوّل، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، مع وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، برز الخلاف العميق في التحليل والخيارات. وبدل أن يحاول أن يتقرّب من موقفنا أو أن يحاول تفهّمه، جاء ردّه تهكّماً بالثورة نفسها التي قال إنه هو الأكثر خبرةً بما تعنيه. وعلى الأغلب، كان صادقاً في مشاعره ورؤيته السلبية لأي حركة احتجاجية، وبالأحرى ثورية شعبية تهدف إلى التغيير الجذري لنظامٍ قائمٍ على العنف والإكراه والقهر. لم يفهم الروس معنى تطلعات الشعب وحقوقه، أو لم يريدوا أن يفهموا، وأرادوا إقناعنا بأن الغرب هو المسؤول عن كل شرور العالم. وربما اعتقدوا بالفعل أن ما يحصل في سورية يشبه ما حصل في عراق 2003، أو في أحسن الأحوال في ليبيا 2011، وراهنوا على أن تدخلاً قوياً منهم في مجلس الأمن والأمم المتحدة سوف يردع القوى الغربية الراغبة في التدخل في سورية، على حساب النفوذ الروسي.
وفي خطوةٍ لاحقة، اعتقدت الدبلوماسية الروسية أن بإمكانها، من خلال الرهان على التدخل العسكري الإيراني من جهة، ومغازلة المعارضة، أو بعض أطرافها، لتقريبها من موسكو من جهة ثانية، التوصل إلى تسويةٍ سياسيةٍ سريعةٍ للأزمة السورية، وتذليل تعنّت الأسد الذي أصبح مديناً لها في الدفاع عن وجوده. وهكذا اعتقدت موسكو أنها تستطيع أن تحقّق النجاح الدبلوماسي الذي تحتاجه لتعيد تأهيل نفسها، وتسترجع صدقيتها ومكانتها الدولية، وهذا ما كانت بأمسّ الحاجة إليه لمواجهة الضغوط الأوروبية والأميركية المستمرّة عليها، سواء ما تعلق منها بالعقوبات الاقتصادية القاسية، أو بالضغوط العسكرية والاستراتيجية، في مجال نفوذها. وعندما شعرت بداية عام 2015 أن النظام يكاد ينهار، تدخلت هي ذاتها، وحاولت أن تضع كل ثقلها العسكري لحسم الصراع بأي ثمن، وبأسرع وقتٍ ممكن. وأتذكّر أنه بعد أيام من دخول القوات الروسية إلى سورية، التقيت الممثل الشخصي للرئيس بوتين ونائب وزير الخارجية، ميخائيل بوغدانوف، بدعوةٍ منه، في مقر سفارة روسيا الاتحادية في باريس، لينقل إلي رسالةً مفادها بأن روسيا لا تريد التدخل العسكري في سورية، لكنها دخلت فقط للقضاء على الإرهابيين الروس المشاركين في الحرب مع المتطرفين، والذين قدر عددهم بألفي شخص، ولن تقبل عودتهم أحياء إلى بلادهم، ولن تزيد فترة تدخلها عن شهرين. ضحكت طبعاً من فترة الشهرين، لكن بوغدانوف لم يتردّد في التأكيد عليهما، بينما كانت الصحافة الرسمية تتحدث عن ثلاثة أشهر. وها هم الروس يخطّطون للبقاء في سورية نصف قرن بعد انقضاء سنتين على تدخلهم القاتل في الحرب الدولية على السوريين.
(2)
أخطأ الروس أخطاء كبيرة، ولا يزالون يخطئون، بحق السوريين أولاً، لكن تجاه مصالح روسيا أيضاً والعلاقات الروسية السورية في المستقبل، ولأسباب عديدة. أول هذه الأسباب إنكارهم، مثل الأسد وطهران، حقيقة ما يجري في سورية منذ ثماني سنوات، وعمق تجذّر مطالب
التحرّر من قبضة الحكم البدائي البهيم في وسط قطاعاتٍ واسعةٍ من الشعب السوري، وهذا خطأ جوهري نابع من رفضهم فكرة الثورة والاحتجاج الشعبي والتغيير نفسها، وامتناع منهج تفكيرهم على استيعاب هذا الأمر، حتى على مستوى الاحتمال. وهكذا تصرّفوا بالفعل على أساس أنهم يواجهون تدخلاً غربياً واسعاً ضدهم في سورية، لا حركة شعبية عميقة الجذور.
وأخطأوا ثانياً عندما عطّلوا، بشلّهم مجلس الأمن، أي تسويةٍ سياسيةٍ سوريةٍ، وغطّوا على تدخل المليشيات الإيرانية الطائفية، وهم يتحمّلون اليوم مسؤولية أخلاقية وسياسية وقانونية أساسية في المجازر وعمليات التهجير القسري والتجويع واستهداف المدنيين والإبادة الجماعية التي نجمت عن هذا التدخل، والتي ستنجم في المستقبل تحت حمايتهم وبرعايتهم وبمشاركتهم الكاملة، العسكرية والسياسية والدبلوماسية. وقد حرمهم غضّهم النظر عن هذه الأعمال الإجرامية التي دانتها تقارير المنظمات الدولية جميعاً من أي أملٍ في كسب ثقة الشعب السوري، أو بعض قطاعاته، حتى القريبة منهم، والتي راهنت، في فترةٍ ما، على روسيا لتحجيم التدخل الإيراني وعقلنة سياسة الأسد الانتحارية.
وأخطأ الروس ثالثاً عندما احتقروا المعارضة واستضعفوها واستهزأوا بها، واعتقدوا أن في وسعهم تدجينها والالتفاف عليها واستغباءها، لتحقيق مخطّطاتٍ مكشوفة الغاية الواضحة، منها تصفية مطالب الشعب السوري، وإخفاء وجه نضالاته ومعالم ثورته العظيمة، حتى تتحقق أطروحتهم الأولية المطابقة أطروحة الأسد، أي إنكار أي حركة شعبية داخلية ذات مطالب شرعية، والتمسّك بأطروحة المؤامرة الخارجية.
وأخطأ الروس رابعاً عندما كذبوا على السوريين، وربما على أنفسهم، وأعلنوا أن هدفهم المشاركة في القضاء على المنظمات الإرهابية، والإرهابيين الروس خاصة، ولم يلبثوا حتى نصبوا أنفسهم سلطة انتداب الأمر الواقع على سورية وشعبها، يستفردون بقرارها، ويهزأون من رجالاتها ومعارضاتها، يجمعونهم ويفرّقونهم منصّاتٍ ومجالس، حسب الطلب والحاجة، ما جعلهم يتماهون في سياساتهم مع سياسات الأسد، ويصادقون على تكتيكاته الإجرامية في الإبادة الجماعية والتجويع والترويع والتهجير القسري لتعديل البنية الديمغرافية، ويغطّون على خروقاته ونكثه عهوده بعد التوقيع على اتفاقات خفض التصعيد والمصالحات الزائفة الأخرى. وهذا ما حوّلهم، في نظر السوريين، بسرعة، من قوةٍ يمكن المراهنة عليها وسيطاً دولياً للمساعدة على ضبط المليشيات الإيرانية وعقلنة السياسة الأسدية والوصول إلى تسوية، حتى جزئية، إلى قوة احتلال بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، وما تنطوي عليه سياسات الاحتلال الروسي، كما عرفته بعض شعوب القوقاز من عنفٍ ودمارٍ لا يُجارى.
وأخطأ الروس خامساً، عندما ورّطوا أنفسهم في تبني قضية الأسد شخصياً والمبالغة في الدفاع عن بقائه في الحكم، وحقه في الترشح لأي انتخاباتٍ رئاسيةٍ قادمة، وتبرئته من التهم التي كبّلته بها المنظمات الإنسانية والحقوقية الدولية، ولجان التحقيق الأممية، بما في ذلك استخدام السلاح الكيميائي، متحدّين بذلك مشاعر ملايين السوريين الذين فقدوا أبناءهم، وقضى الأسد على مستقبلهم، وخرّب وطنهم.
وسيخطئ الروس سادساً وأخيراً إذا اعتقدوا أن الأمر قد استتبّ لهم في سورية، وأن شعبها فقد نوابض المقاومة والقوة، أو أن العالم سحب يده منها، وسلّم بسيطرة روسيا وإيران عليها، أو قبل بتقاسمها بين القوى الإقليمية. ولعل بوادر الحرب المعلنة على الوجود الإيراني المليشياتي في سورية، منذ أسابيع فقط، تظهر هشاشة التموضع الروسي في الشرق الأوسط أيضاً، في غياب قوة برية مستقلة، على الرغم من المواقع الجديدة التي نجحت روسيا في كسبها.
ولا يوجد شكٌّ في أن خشية موسكو من تقويض الغرب الموقع الاستثنائي الذي احتلته في هذه المنطقة هو الذي يدفعها إلى الاستعجال في فرض تسويةٍ سياسيةٍ بأسرع وقت، تضمن بقاءها في المستقبل. كان هذا هو الدافع للاستعجال في الدعوة إلى مؤتمر الشعوب، ثم الشعب السوري، الذي أعلن عنه أولاً في حميميم، ثم نُقل باسم الحوار الوطني السوري إلى سوتشي في 30 يناير/ كانون الثاني 2018، وسبّب ولادته ميّتاً أيضاً، بعد رفض أطراف المعارضة الرئيسية حضوره والمشاركة فيه. وهذا هو السبب، أخيراً، في استعجال الروس حسم مسألة إدلب التي تلخص اليوم التراجيديا السورية بكل أبعادها، ولا تريد أن ترى مشكلة فيها، ولا مصير أربع ملايين إنسان، نصفهم من المهجّرين والمنكوبين بسببها، إلا من زاوية الحرب على الإرهاب، في الوقت الذي لم تبذل روسيا فيه أي جهدٍ حقيقيٍّ لمحاربة المنظمات المتطرّفة، ووجهت كل قوتها العسكرية ومناورتها السياسية للقضاء على فصائل المقاومة المعتدلة السورية.
وستفشل المبادرات الروسية القادمة جميعاً أيضاً، إذا استمر الروس في حصر تفكيرهم في القضية السورية في هذه الزاوية، وعلى هذا المنوال. فلم يقدّم الشعب السوري مليون ضحية
وملايين المشرّدين واللاجئين وعشرات بل مئات المدن المدمّرة والمسوّاة بالأرض، من أجل أن “يزيّن” بعض المعارضين، كما يتوّهم القادة الروس، مهما كانت مواهب هؤلاء ومقدّراتهم وتاريخهم، حكومةً جديدةً للأسد، لن تكون سوى حكومة إدارة الكراهية والحقد والانتقام من الشعب السوري الذي انتفض على نظامٍ لم يتوقّف عن تدمير شروط حياته، واستعباده، وتحول في الحرب إلى عصابةٍ تعمل لحساب من يموّلها. لقد قدّم السوريون شهداءهم من أجل أن يسترجع كل سوري، صغيراً أو كبيراً، مسلماً أو غير مسلم، عربياً أو كردياً أو غيرهما، فقيراً أو غنياً، حاكماً أو محكوماً، كرامته، أي أن يكون سيداً، حرّاً، ولياً على أمره، حياً بضميره، ومشاركاً في تقرير مصير وطنه. أي أيضاً من أجل أن يكون للسوريين وطن، ولا تكون سورية مزرعة لأحد، لا للأسد وجلاوزته ومخابراته، ولا للروس، ولا لغيرهم مهما كانوا. وجوهر الكرامة وقوامها هو الاعتراف المتبادل والاحترام المتساوي، للذات والآخر.
بسياستها التصفوية الراهنة، لا تجرّد الدبلوماسية الروسية المعارضة من احترامها نفسها واحترام شعبها لها فحسب، وإنما تهين جميع السوريين الذين تتعامل معهم، كما لو أنهم لا يزالون في المزرعة العبودية ذاتها التي يحاول الأسد، بحرب الإبادة والدمار الشامل، منذ سبع سنوات، إعادتهم المستحيلة إليها.
لهذه الأسباب، فشلت روسيا في سورية، ولا يمكن لها إلا أن تفشل. بدل أن تكون صانعة سلام، كما أرادت، وتستعيد صدقيّتها على ساحة السياسة الدولية، ها هي تغرق أكثر في مستنقع الدم والبؤس والدمار الذي صنعته بيديها، ولا تزال ترفض أن تخرج منه. ولن يفيد فشلها للأسف أحداً، ولكنه، بمقدار ما يقود سورية إلى الاستيطان في النزاع والحرب، سوف يزيد من عذابات شعبها وآلامه، ويفرض عليه الاستعداد لحرب جديدة ومعقدة ثانية، من أجل حقوقٍ أساسيةٍ، تحصل عليها الشعوب اليوم من دون نقاش. تلك هي مشكلتنا مع روسيا وخياراتها.