جسر: رأي:
منذ خمسة أيام، وبما يتجاوز ردّ ذلك إلى المصادفة، تواردت أخبار من قبيل تعليق صورة بشار الأسد على واجهة القصر العدلي في حماة مرفقة بلقب “القاضي الأول”. التلفزيون الرسمي استضاف “شاعراً”، يكتب النظم التقليدي المقفى، وبيده ديوانه الذي يحمل غلافه صورة بشار الأسد. بينما انتشرت صورة منحوتة ضخمة بالطول الكامل لبشار، وهو يرفع يده اليمنى أعلى بقليل من التحية النازية المعروفة، من دون أن ندري أين ستوضع المنحوتة التي أُنجزت للتو.
سيُتوّج ما سبق بقرار زيادة الرواتب الذي أصدره بشار قبل يومين، لتبدأ الماكينة الإعلامية بعملها المعتاد وتصوّر القرار كأنه مَكْرمة شخصية منه، بصرف النظر عن قيمة الزيادة التي لا تصل إلى ما يعادل ثلاثين دولاراً وفق أسعار الصرف الحالية، وأيضاً بصرف النظر عن أن الزيادة “ككل الزيادات الشبيهة” تعكس تضخماً سابقاً ولاحقاً وتدهوراً في القيمة الحقيقية للدخل. بالتزامن، لا يأتي بلا قرار مركزي التركيزُ على وسم بشار بـ”أبو حافظ”، فالنَظْم الذي ألقاه الشاعر المذكور على شاشة التلفزيون يبدأ بمديح حافظ الأسد كصاحب رسالة يستكملها بشار، ومن المرجح أن التركيز على الاستمرارية لا يستهدف الآن تعويم حافظ الحفيد كوريث للسلطة.
في السنوات الأولى لعهده، وبسبب مطالبات الناس برفع الأجور، خرج بشار ليتحدث عن ربط الأجور بالإنتاج والتنمية، وقال حينها أن أي رفع للأجور لا يستند على وفر وتمويل حقيقي سيكون بلا فائدة. رغم تلك التوضيحات، لم يمضِ وقت طويل حتى فهِمَ هو الأرباح التي يمكن أن تُجنى من التضخم، وعاد إلى سياسة أبيه الاقتصادية في ما يخص تمويل العجز بالتضخم. مقارنة اليوم بالأمس أكثر كارثية مع اقتصاد مدمر، وبنية خدمية وإنتاجية متهالكة، فضلاً عن الديون المستحقة التي تطالب بها طهران وموسكو، إلا أن إعادة إنتاج الأسدية الأولى تظهر الملجأ الوحيد أمام جمهور المؤيدين المتضررين.
كانت الألقاب قد أُسبغت بسخاء على حافظ الأسد، فهو المحامي الأول والمعلم الأول والفلاح الأول… هو الأول على الإطلاق وفي جميع الميادين. تلك الكاريزما التي صُنعت له لم تفقد مفعولها حتى الآن، أو هذا ما يطفو على السطح، فالعقد الضمني والعلني بين بشار ومؤيديه يستند إلى الأسدية التي أرساها الأب ما لم يثبت هو تفوقاً يتقدّم بتلك الأسدية. مع انطلاق الثورة، كانت اللافتات الأكثر شيوعاً في الساحل السوري هي تلك التي تعلن التأييد، أو تحض عليه، لمن يوصف بالغالي ابن الغالي، وبعضها صريح في إظهار التأييد وفاءً للأب. في أمكنة سورية أخرى، يمكن القول أيضاً أن الجمهور المعادي للتغيير يستند وجدانه إلى أسدية الأب التي ربما لم يدرك غيرها، ورغم شظف العيش في ظلها بقيت تمثّل صورة الاستقرار والأمان، مع كل ما لصورة الأب البطريركية من أثر نفسي جمعي.
كان المطلوب من بشار، بخلاف الصورة التي حاول ترويجها عن نفسه من قبل، أن يبطش بمعارضيه على منوال الأب. الحق أنه فعل ذلك وأكثر، وأثبت في العديد من المناسبات “وقد تعمد ذلك” وحشية منقطعة النظير، ومارس الإبادة أحياناً من أجل الإبادة، وخرج مرات ليعلن مسؤوليته الكاملة، وكان مفهوماً أنه يريد إثبات كفاءته لجمهور مؤيديه، بل يريد القول أنه يبزّ أباه على هذا الصعيد.
لكن شخصية حافظ الأسد، وآثارها الرمزية الباقية، تبقى هي الملجأ والحصن الذي يعود إليه كلما بان المآل المتهافت. تحقيق النصر، بواسطة الحليفين الإيراني والروسي، ليس وحده الذي كشف تهافت النصر، وإنما فوقه الكلفة الباهظة التي تجعل من أيام الأسد الأب فردوساً مفقوداً على صعيد العيش للطبقات الفقيرة من المؤيدين. لا عزاء يقدّمه بشار لهؤلاء سوى أنه ينتمي إلى فردوسهم، وأنه ابن أبيه، يفعل ما كان يفعل الأب، ويتقمص شخصيته من جديد. إنه أبو حافظ الذي يتغنون به، وهو على مسيرته ذاتها؛ القاضي الأول والفلاح الأول… إلخ. إنه يكرر لهم الماضي الذي يحبون، بتفاصيله التي اعتادوا عليها أو أدمنوها، وعليهم هم الذين تعلقوا بالماضي دفع ثمن العيش مرة أخرى فيه.
في الأصل كانت الثورة تعبيراً عن وصول الأسدية إلى مأزقها ونهايتها، وهي الدلالة ذاتها التي وجدت في كافة الثورات العربية من انطلاقها. عدم اعتراف مؤيدي بشار بهذا الواقع، وتلك الأصولية الأسدية المعممة لدى شريحة لا يُستهان بها، يعكسان في جزء صغير منها المصالح المباشرة الفاحشة، في حين تتراكب الاعتبارات لدى الفئة الأوسع التي لم تستفد منها سابقاً وتدفع ثمن بقائها وتكرار زمنها القديم.
لقد كان الأبد الأسدي، متعيناً بالاستبداد ثم توريثه، بمثابة خروج عن الزمن العالمي العام. ذلك الأبد طبخه حافظ الأسد على مدار ثلاثة عقود، وعلى نار هادئة لم تنغصها ثورة على النحو الذي شهده الوريث. لا بسبب حنكته، وإنما لأن المرحلة كانت مواتية في العديد من دول المنطقة، نجح الأب في مشروعه. استرجاع الأب، عبر تقمصه، لن يعيد زمناً نرى يومياً كيف انقضى في عموم المنطقة، ولو كانت الإمكانيات العسكرية والمخابراتية متوفرة أو فائضة عن اللزوم.
ما يجمع صورة بشار وتمثاله والنظم المكتوب في مديحه تلك الرداءة الفنية الفاقعة، ليبدو كأنه كاريكاتير عن أبيه ليس إلا. هذا الفقر غير ناجم فحسب عن فقر أساسي في المخيلة الأسدية، وإنما أيضاً ناجم عن إفقار البلد إلى حد تظهر فيه الأسدية عارية إلا من ذاتها. في زمنها الأول، كانت تتعايش مع الأسدية مختلف الكفاءات، وكان ثمة هامش ليطور أفرادٌ كفاءاتهم بمعزل عنها، ومن دون أن يكونوا معها أو ضدها. حتى إذا استثنينا ذلك النوع من الكفاءات الذي يتطلب هامشاً بسيطاً من الحرية، شهدت البلاد نزيفاً عاماً من الكفاءات ولو هروباً من العنف وعدم الاستقرار، أي بلا قناعات سياسية واضحة، وهذا الإفقار يصيب الأسدية وأدواتها بخلاف تبجح رئيسها عن المجتمع المتجانس، وبلا شك فإن مقتل مئات آلاف الشباب ممن هم في ذروة طاقاتهم يحتاج تعويضه إلى مرور أكثر من جيل.
لأصحاب الغرائز الدموية يستطيع بشار ارتكاب مجازر لا هدف لها سوى تفريغ شحنات الحقد الأعمى، على مثال قصف مخيم قاح للاجئين على الحدود التركية. وللشريحة الأعم يلبس عباءة أبيه ليوهمها بأن الأسدية تسترجع عافيتها، بتماثيلها وصورها ونظّاميها الجدد. مشكلته لن تكون فقط في استحالة إعادة الزمن إلى الوراء، بل أيضاً في استعادته بأدوات ومقدرات ركيكة تجعله مبتذلاً وهزلياً، ليظهر أصغر بكثير من عباءة يتوهم عدم انتهاء صلاحيتها.
(المدن)