سمر شما
بغضّ النظر عن توجّهك الفكري أو موقفك من النظام الحاكم، قضية المعتقلين قضية واضحة. كل المعتقلين خرجوا من السجون دون محاكمة واضحة وعلنية، اللهم فقط قراءة أسمائهم كما تفعل مدارس البعث في حفلة نهاية العام!
أذكر واقعة حدثت عام 2013 مع شخص مقرب مني وأتحفظ عن ذكر مدى قرابته الآن.. اعتُقل الفتى في اليوم الأول من عيد الأضحى من أمام حاجز المشفى الوطني بين طريق داريا في ريف دمشق والمعضمية، كان ذاك الشاب في الـ 15 من عمره. وقف الشاب وصديقه أمام الحاجز فاعتقل قريبي دون أي سؤال ولا حتى إظهار الهوية.
أذكر أن الصديق قال لأم المعتقل بالحرف: “والله يا خالة لم يسألونا عن أي شيء ولم يكن بحوزتنا أي هاتف ولكن قالوا لي اذهب أنت (مع شتيمة) وأنت ضلك هون.
وبقي “هون” بالمقابل جاءت آلاف الاتصالات التي تفاوض الأهل على مبالغ مالية ليعرفوا فقط مكان ابنهم المعتقل. بقيت العائلة على ذلك الحال لمدة لا تقل عن شهور بين دعاء وتوسل وصلوات ودفع مبالغ مالية ليأتيهم الجواب: “ابنكم في المخابرات الجوية، لا في الفرقة الرابعة ثم مات ابنكم”!
في الثالثة فجرا من أحد الأيام دق الباب، فتح الأب الباب مذعورا ليشاهد ابنه الميت يعانقه.
يقول صديقنا المعتقل الصغير (الذي بدى كبيرا جدا بعد شهور الاعتقال): “طوال حياتي كنت بعيد جداً عن السياسة، إلى حد كنت فاقد الثقة تماماً في السياسيين كلهم. كنت أحتقر المعارضة السورية جداً وشايف أنها هشة ولا تقل سوءاً عن النظام، كنت أعتقد أنها مجرد معارضة زائفة،
كنت أعتبر كل الإخوان إسلاميين وكل الإسلاميين إخوان، كنت بعيد جداً لدرجة ممكن تقنعني بخطاب الشيوعيين بدهم يخربون أخلاقنا أو الجمهوريين عندهم صلاة مختلفة أو حركات التمرد حتدخل دمشق وتذبح كل الإثنيات العربية، أو الإسلاميين المتدينين عبارة عن خلايا نائمة رح تولع البلد.. إلخ”.
ويضيف: “اكتشفت متأخراً جداً أنو احتقاري للمعارضين وبعدي عن الواقع السياسي وانخفاض وعيي السياسي هم نتاج لتربيتي وتعليمي 10 سنوات في مدارس وشاشات وإذاعات البعث… كنت محتاج للتعرض للاعتقال من أجل أن أتحرر.. جدران المعتقلات مخضبة بتوقيعات السياسيين من مختلف انتماءاتهم، الظرف الاستثنائي الذي عشناه نحن في آخر سنة ونصف، هم يعيشونه يومياً في آخر 60 سنة، اعتقالات واغتيالات ومضايقات وفصل تعسفي ومطاردات وتشويه سمعة… إلخ، بقوا رغم كل هذا مراهنين على الشارع.. علينا”.
“في آخر 5 شهور، قابلنا وعرفنا في المعتقل أشخاص عظماء فعلياً”، وأخذ يعدد أسماء فلان وفلان وفلان، وغيرهم من الرموز السياسية والدينية.
أشخاص مختلفين في كل شيء… بعثيون، شيوعيون، سلفيون، جمهوريون، اتحاديون وحزب… إلخ.
“بس كلهم متفقين في أهم شي: الصدق وحب الوطن.. فرصة التعرف عليهم عن قرب هزت قناعاتي القديمة، وأثبتت لي أني كنت خاضع لافتراضات ساذجة جداً”.
كان كلام الشاب الصغير أشبه بسحر وأبلغ من أي خطاب يومها… في بداية 2014 بعد شهور، اعتقل مرة ثانية وخرج قبل أيام مع من خرجوا بعد مجزرة التضامن ولكن هذه المرة لم يكن يتكلم ولم يتحدث بأي كلمة، كل ما قاله “مشان الله بدي بيع كليتي بس طلعوني تهريب من هالبلد”!
نعم، بعض الجرائم لا تحتاج إلى تسريبات، فكل شيءٍ مكتوبٌ على وجه الضحايا على وجه المعتقلين!