في تسريب صوتي لقيادي عسكري في تنظيم “الدولة” الإسلامية تلا خلاله نص الاتفاق الذي ابرم بين التنظيم وقوات سوريا الديمقراطية في جيب الباغوز قبل ثلاثة أسابيع. وتوضح البنود الاثنا عشر للاتفاق التركيز على المسالة الأمنية بشكل رئيسي.
من البنود إدراك قوات سوريا الديمقراطية “قسد” خطورة بقاء عناصر التنظيم في مناطق سيطرتها، ما دفعها إلى التعهد بتسهيل خروج السوريين من أبناء التنظيم وذويهم من النساء والأطفال إلى المناطق الأخرى سواء غرب نهر الفرات أو إلى منطقة ريف حلب الشمالي. كذلك أعلنت “قسد” عن موافقتها على خروج من يرغب من المقاتلين الأجانب (المهاجرين) وأسرهم عبر دول الجوار وهو ما وصفه القيادي في التسجيل بـ “عبر طرق التهريب” ذاكرا صراحة تركيا أو إقليم كردستان العراق.
ويعتبر أخذ البصمات لجميع الخارجين من الباغوز شرطا أساسيا للفارين من جحيم المعارك منذ عدة أسابيع. حيث سجل الجهاز الأمني التابع لوحدات “حماية الشعب” الكردية بصمات العين إضافة إلى بصمات الأصابع.
ورغم نفي “قسد” مشاركتها المعلومات مع قوات التحالف الدولي حسبما أكد الوسيط المفاوض بين التنظيم وقسد، إلا أن التقنيات المستخدمة في التقاط البصمات التي اعتمدتها أخيراً والتي لا تتوفر لتنظيمات أو ميليشيات وانما ينحسر استخدامها بالمؤسسات الحكومية وأجهزتها الأمنية، يعني عملياً التنسيق المباشر مع المخابرات الأمريكية وبالتالي مشاركة هذه المعلومات معها وتزويدها بأكثر من 70 ألف ملف أمني لمقاتلي التنظيم وأسرهم بعد التحقيق معهم. ويعرف الجهاز الذي يسحب بصمة العين تقنيا بجهاز “ماسح القزحية” الذي يسلط الأشعة تحت الحمراء ويرسم شكل قزحية العين ويحولها إلى كود برمجي فريد بسبب استحالة تقاطع قزحية العين بين البشر، حيث تختلف بين العين اليمنى واليسرى للشخص الواحد. وفي معرض شرح القيادي في تنظيم “الدولة” نص الاتفاق ذاك، يمكن فهم أهداف “قسد” من رغبتها في إبعاد السوريين عن مناطق سيطرتها وتسهيل خروج المقاتلين الأجانب وعوائلهم، وذلك بسبب الخوف من “الولايات الأمنية”. وهو المصطلح الذي أطلق على لسان عدد من قادة التنظيم في أشهر انحساره الأخيرة في جيب الباغوز ومحيطه شرق نهر الفرات قرب الحدود العراقية السورية، والذي يعتبر تذكيرا بمرارة “الذئاب المنفردة” والتي قتلت المدنيين في غير مكان من العالم.
وذلك يعني أيضاً أن تنظيم “الدولة” الإسلامية تحول إلى شكل أكثر مرونة بعد خسارته الجغرافيا بشكل شبه نهائي أو على الأقل الجغرافيا المشكلة لمجتمع ونظام حكم قائم، والتي لم يبق منها إلا الجيب المتحرك في الحدود شرقي بلدة السخنة في عمق البادية السورية حيث يسيطر عشرات من مقاتلي التنظيم على منطقة لا بأس بها تحاذي طريق تدمر – دير الزور. ويقوم مقاتلو التنظيم بالإغارة المستمرة على مخافر جيش النظام والميليشيات الإيرانية هناك.
وتشكل الولايات الأمنية تنظيماً سريا متماسكا يتحدى القول بهزيمة “الدولة” الإسلامية، ويساعد في إعادة تنظيم الولاية الأمنية عدة أمور، أولها إعادة إطلاق سراح أسرى التنظيم بضمانات محلية وعشائرية كما جرى في مدينة الرقة وجوارها. وثانيا، إخراج مقاتلي التنظيم من سجون “وحدات الحماية” بسرعة كبيرة وإبعاد قسم كبير منهم إلى منطقة غرب الفرات في ريف حلب الشمالي وإدلب. إضافة إلى وجود عدد هائل من الأطفال من أبناء المقاتلين الأجانب (المهاجرين).
مستقبل أطفال التنظيم
وعلمت “القدس العربي” أن أكثر من 20 ألف طفل دون سن 15 هم معتقلون في مخيم الهول في محافظة الرقة. أي ان نسبة الأطفال الذكور تصل إلى ثلث عدد المعتقلين. ويمكن اعتبار نصفهم بالحد الأدنى قد تربى وتعلم في جيش “أشبال الخلافة”. وهو الجيش الذي بث له التنظيم أشرطة فيديو عدة في محاولة كسب الأطفال في المناطق القريبة والذين يقاتلون إلى جانب فصائل إسلامية جهادية أخرى في سوريا، وجعلهم جزءاً أساسيا من دعاية التنظيم الموجهة إلى الغرب بوصفهم قنابل مستقبلية ستنفجر في أي مكان. ونشر التنظيم إصدارات متنوعة لأطفال من منتسبي الجيش وهم يقومون بإعدام أسرى وجهت إليهم تهما مختلفة.
وتساعد أعداد الأطفال الهائلة تلك في تنشيط الخلايا الأمنية الصغيرة والمرتبطة بشبكة واسعة من خلايا أخرى متوقع ان تولد فور الافراج عن الأطفال المحتجزين.
والجدير بالذكر أن قضية أطفال الخلافة هي من أعقد المشاكل التي تواجه مستقبل سوريا على الإطلاق بسبب عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي وعدم توفر برامج دمج وتأهيل لهؤلاء الأطفال. وهي مسألة تبقى مرهونة بتعقيدات البلدان التي ينحدر منها الأطفال وتتعلق كذلك بحق المرأة في منح الجنسية لأولادها، ومدى تقبل المجتمعات المحلية لهؤلاء الأطفال واستعدادها لاستيعابهم.
المقاتلون الأجانب والنظام
طالبت موسكو في منتصف آذار/مارس الجاري تسليم كافة المقاتلين الأجانب في سوريا وذويهم للسلطات السورية في دمشق. وقالت الناطقة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا: “يجب الإشارة إلى وجود بعض الاختلاف في الآراء داخل المعسكر الغربي حول قضية المسلحين والإرهابيين الأجانب في سوريا والعراق”.
وأتى تصريح موسكو بعد مطالبات علنية من واشنطن لدول الاتحاد الأوروبي باستقبال مواطنيها المنضمين إلى تنظيم الدولة الإسلامية، ما يأتي أيضاً في سياق المساومات السياسية من خلال تقديم باب انقاذ للدول الأوروبية من مسؤولية استعادة مواطنيها المقاتلين في سوريا عبر تسليمهم إلى النظام السوري. وانطلاقا من تصريحات القيادة الأمريكية، يبدو أن واشنطن بدأت الضغط على الدول الأوروبية لإجبارها على الاهتمام بمصير الجهاديين من مواطنيها، فيما الموقف الأصح من الناحية القانونية والذي يصر عليه الجانب الروسي، يكمن في ضرورة تسليم كل المسلحين والإرهابيين المتبقين في سوريا للسلطات الشرعية في هذا البلد.
وتنظر روسيا إلى المقاتلين الأجانب كورقة ضغط جديدة على دول الاتحاد الأوروبي تضاف إلى ملف اللاجئين الذي حاولت موسكو ربطه بقضية إعادة الإعمار.
ويأتي المقترح الروسي في ظل تردد أوروبي ودولي من تقبل عودة مواطني تلك البلدان الذين انضموا إلى تنظيم “الدولة” وقاتلوا إلى جانبه بوصفهم يشكلون خطرا على الأمن القومي لبلدانهم.
ويواجه العالم بأسره خطر مقاتلي تنظيم “الدولة” الإسلامية وعوائلهم على اعتبارهم قنابل موقوتة ستنفجر بكل تأكيد، وهو ما يشكل خطرا يهدد البلدان التي غادروها، لكن خطرهم الأكبر سينعكس في شمال شرق سوريا وغربها في وقت قريب جدا. وفي حين أن منطقة شرق الفرات هي أكثر انضباطا أمنيا إلا أن خطر هؤلاء المقاتلين قد ينفجر قريبا في عفرين ومنطقة “درع الفرات” وفي درجة أكبر في إدلب بسبب وجود عدد من الفصائل التابعة للقاعدة والتي ستسعى إلى استقبالهم واحتوائهم مثل “حراس الدين”. وأمام كل الاحتمالات الداخلية والخارجية فمن غير المستبعد ان تقبل واشنطن تسليمهم إلى النظام السوري باعتبارها غير قادرة على تحمل عبء قتل أطفال ونساء التنظيم.
لكن يبقى السؤال، أن كانت واشنطن ستمنح النظام ورقة الجهاديين مرة أخرى بعد ما سبق واستخدمهم في العراق ضدها وما فعله بعد ذلك لتغذيتهم بعد عام٢٠١١.
القدس العربي ٢٢ آذار ٢٠١٩