صحيفة “جسر” أول مؤسسة إعلامية تنشر قصة صعود عائلة القاطرجي المغمورة، من دكان الخياطة في الرقة، إلى أعلى سلم أثرياء سوريا، وبمناسبة اغتيال عميد الأسرة اليوم بغارة إسرائيلية قرب الحدود السورية اللبنانية، نعيد نشر تحقيق سابق نشرته صحيفة جسر في شباط / فبراير عام 2019، والذي يكشف بعض أسرار صعود العائلة التي تعتبر أبرز ظواهر أثرياء الحرب في سوريا.
تتصدر أسماؤهم قائمة حيتان المال في سوريا بثروة تقدر بـ ٣٠٠ مليار ليرة سورية، يملكون ويديرون مجموعة واسعة من الشركات التي تعمل في مجالات مختلفة، ولا يربطها بعضها البعض سوى اسم العائلة، يحوزون عشرات البنايات والعقارات الفاخرة، في قلب دمشق وحلب التاريخية، يشترون النفط والقمح من داعش وقسد على حدّ سواء، ويستوردون البضائع من تركيا، وتخترق قوافل شاحناتهم خطوط الصراع الملتهبة بمنتهى اليسر.
يتبعهم جيش من شيوخ القبائل المستعطين، وينفقون على ميلشيات عسكرية، أو يديرونها بأنفسهم في معظم مناطق الصراع في سوريا، وترعى مجموعتهم حفلاً لتزويج عناصر الجيش السوري، يتصدره صورة لـبشار الأسد مصافحاً “حسام قاطرجي”، عضو مجلس الشعب، الذي يوجه دعوة لحضور العرض الأول لفيلم انتجته مجموعته التجارية، واخرجه رئيس مجلس الشعب، نجدت أنزور، بعنوانه يشير إلى ايديولوجيا متطرفة في عدائها للدين الإسلامي “ردّ القضاء”، وينهي دعوته بالقول إنه هديّة للشعب السوري، بمناسبة عيد الميلاد المجيد.
واخيراً، يتردد اسم “القاطرجي” في كواليس حكومة الولايات المتحدة والإتحاد الأوربي، اللذان فرضا عليه عقوبات “صارمة”، لكنهم يسمحون لحليفتهم قسد، ببيعه نفط شرق الفرات ليزداد ثراءً، فما هي حكايته؟
الخروج من الباب
في نهاية خمسينيات القرن الماضي، غادر بلدة الباب الواقعة شمال شرق حلب الخياط بشير قاطرجي مع أولاده الصغار، وحطّ الرحال في الرقة، التي كانت يومها قرية كبيرة يقطنها نحو ٢٥ ألف ساكن، غالبيتهم من العشائر العربية التي استقرت حديثاً على ضفاف الفرات، وتأنف من العمل في الحرف اليدوية، مؤثرة رعي المواشي وزراعة الأرض.
استأجر بشير منزلاً في زقاق ضيق بشارع المنصور، من وجيه محلي من قبيلة البوسرايا يدعى كحم المخلف، ودكاناً في ” كراج الجعب” بشارع القوتلي، اتخذه مشغلاً لخياطة الأجواخ. ولأن نخب المنطقة كانت تجد مشقة في السفر إلى حلب، في كلّ مرّة يريد فيها “تفصيل” ملابسهم، فقد وجدوا في دكان ابي النور”بشير قاطرجي” ضالتهم، وصار دكانه مكاناً للقائهم.
تأثر ابنه البكر أحمد، الذي كان طفلاً حينها، بالأجواء العشائرية وتعلق بها، فأقبل على حفظ الأنساب وأنواع الأحاديث المتداولة في تلك البيئة، ولاحقاً سيصبح أحد الرواد الدائمين لمضافات العائلات الكبيرة في الرقة، يرتدي زيّهم، ويتحدث قصصهم، ويشاركهم الأحاديث التي سمعها بنفسه من الشيوخ والوجهاء في دكانة أبيه، الذي كان عموده الفقري أيضاً، فهو أفضل من يعمل على “الدرزة” في المنطقة كلها.
ارتبط أحمد بشير قاطرجي في الرقة بعائلتين بشكل كبير، هما آل الهويدي، شيوخ قبيلة العفادلة، كبرى قبائل الرقة، الذين اشهروه كخياط للنخبة فيها، وآل العجيلي، أقارب الدكتور عبد السلام العجيلي، الذين لجأ إليهم ليكتسب نسباً يعينه على الثبات في تلك البيئة التي تحدد مكانة الفرد بشكل صارخ من خلال هويته القبلية، فأحمد استطاع أن يقنع من حوله بنسبته إلى قبيلة “البقارة” الكبيرة، التي ينتسب لها “آل العجيلي” أيضاً.
توفي أحمد بشير قاطرجي في بداية الألفية الثالثة، تاركاً لأبنائه منزلاً من أربعة طوابق على دوار النعيم الشهير في الرقة، ومشغل خياطة ومحلاً لبيع الاجواخ في مكان مميز بشارع المنصور، هو مدخل عبارة الزيات، إضافة إلى عدد كبير من المعارف المميزين، وزرع فيهم ولولعه بالتراث والثقافة القبليّة، التي كانت رأس اهتماماته، ولا ينافسها سوى شغفه برجل الدين الصوفي “محمد توفيق عجان الحديد”، الذي كان أحد مريديه، ولا يكاد يتغيب هو وأخوته وابنائه عن حضرة من الحضرات التي يقيمها في زاويته بشارع سيف الدولة.
الأسرة: ثلاثة في واحد
يتردد كثيراً اسم “القاطرجي” اليوم، كما لو أنه شخص واحد، لكن أكثر من عشر مصادر أهلية وعائلية مقربة منهم أجمعت على القول بخلاف ذلك، وأكدته في الوقت عينه.
فأولاد أحمد بشير ثلاثة:
-محمد براء: ويدعى براء اختصاراً، من مواليد الرقة ١٩٧٦، افاد شخص زامله في الخدمة الإلزامية أنه يكتب اسمه بصعوبة، فقد تسرب باكراً ليتعلم خياطة الأجواخ ويعمل في مشغل “المدينة المنورة” العائد لوالده.
-حسام: عضو مجلس الشعب ورئيس مجلس إدارة مجموعة القاطرجي، الوارد اسمه في العقوبات الأميركية، تشير بياناته في موقع مجلس الشعب أنه من مواليد الرقة ١٩٨٢، ولا تذكر أي شيء في خانة المؤهلات العلمية.
محمد آغا: يذكر موقع الاقتصادي السوري أنه من مواليد ١٩٩١، ولا يوجد ما يشير إلى تلقيه تعليماً ما.
والأشقاء الثلاثة مرتبطون فيما بينهم بثروة ابيهم المتواضعة التي كانت أساس صعودهم، الذي ما كان سيتحقق لولا نزعة “الأخ الأكبر” للمغامرة، وشراهته للمال والنفوذ. ولهذا فإن “أولاد القاطرجي” هم في الحقيقة “عرّاب” واحد: “محمد براء”.
حلب: سمسار برعاية ضابط في القصر الجمهوري
ما أن توفي الخياط احمد بشير، حتى باع براء وعائلته منزلهم في الرقة، لرجل دين سلفي، بمبلغ تفاوت تقديره بين مصادرنا، لكنه تراوح بين ١٣ و٢٥ مليون ليرة سورية، (مايساوي ٥٠٠ ألف دولار بسعر الصرف حينها)، فيما تم تأجير المشغل لخياط يدعى رياض عميرو، لكن لافتة المحل ما تزال تحمل عبارة (اجواخ المدينة المنورة٠ بإدارة حج احمد بشير قاطرجي)، ورحل الاشقاء الثلاثة، الذين كان عمر اكبرهم دون الثلاثين، وأصغرهم دون الخامسة عشرة، إلى حلب، التي توصف بأنها العاصمة الاقتصادية لسوريا.
اشترت العائلة بيتاً قديما متهالكاً قرب قلعة حلب، يمنع تغيير مواصفاته باعتباره يقع في نطاق المدينة التاريخية، لكن براء استطاع أن ينتزع موافقة مديرية الآثار والمتاحف في محافظة حلب، لتغيير مواصفاته، من خلال وساطة ضابط في القصر الجمهوري، من الطائفة العلوية، ترجع معرفته به إلى أيام والده في الرقة، إذ قام بافرازه للخدمة في محافظته الرقة، وهو أمر ممنوع قانوناً، لكن ضباط الدائرة الضيقة بوسعهم اختراق هذا القانون، كما غيره، فيما لو تم دفع المبلغ المناسب.
وطد براء علاقته بهذا الضابط، الذي لم تستطع مصادرنا تحديد اسمه، ويبدو أنه من دائرة الحماية الشخصية المباشرة لبشار الأسد، لأنه تمكن من جلب الأخير في احدى زياراته لحلب لتناول المأكولات الحلبية التقليدية في مطعم براء سنة ٢٠٠٦، على ما يتذكر مصدر مطلع.
وفي هذه السنة أصبح براء قبلة الباحثين عن “الاستثناءات” و”الوساطات” و”الرخص” في منطقة حلب القديمة، وعمل كسمسار للعديد من ضباط القصر الجمهوري الذين وسع معارفه وعلاقاته بينهم بسرعة كبيرة، متودداً إليهم بالهدايا والرشى، وتضاعفت ثروته، ليتمكن من شراء خان قديم إلى جانب مطعمه، بمبلغ ٧٠ مليون ليرة سورية، وبعد تعديل اوصافه وبنائه من جديد، تضاعف ثمنه.
دمشق: مضافة للسمسرة زبائنها شيوخ العشائر
فجرت صحيفة الأخبار اللبنانية قنبلة، في عددها الصادر يوم السبت 16 كانون الأول سنة ٢٠١٧ عندما نشرت تحقيقاً عن صفقات ومخالفات براء قاطرجي في سنة ٢٠١٠، مدعوما بصورة محضر تحقيق مؤلف من ١٨ صفحة، ملخصه، أن براء ساهم بتغيير أوصاف بناء اثري من طبقة واحدة وتحويله إلى بناء من خمسة طوابق، عبر الحصول على موافقة غير قانونية من مديرية الآثار والمتاحف في حلب، تحمل الرقم ٤٤٠٩ تاريخ ٢ أيار ٢٠١٠، مقابل الحصول على مبلغ مليوني ليرة سورية (نحو ٤٠ الف دولار وفق سعر الصرف في تلك السنة)، كما يفيد الضبط بأن براء كان يشغل في هذا المجال مجموعة من السماسرة الفرعيين، ومدراء وموظفين حكوميين، بغطاء من شخص أو جهة عليا. وسنعود إلى حيثيات هذا التحقيق ونتائجه لاحقاً.
لكن مصدراً آخر أفاد لـ”جسر” بأن براء قاطرجي كان يدير صفقاته في حلب من دمشق، فالشاب الذي تتبع خيوط شبكات الفساد صعودا من الرقة إلى العاصمة الاقتصادية حلب، لابد له أن يكمل مشواره إلى العاصمة الأمنية والسياسية، حيث يتزاوج المال والسلطة بالطريقة المعروفة جيداً في البلدان المحكومة بديكتاتوريات فاسدة. افتتح براء وشقيقيه في دمشق مكتباً “للتجارة العامة” في ظاهره، ومقراً لإدارة الصفقات السريّة في الواقع. ومع أن الشاب الذي كان حينها في أوائل الثلاثينيات غاص في شبكات الفساد شديدة التكتم، ولم يعد بوسع دائرته الاجتماعية ملاحقته أو معرفة الكثير من أخباره، إلا أن رائحة صفقاته كانت تفوح من مكتبه، فهو يستطيع نقل أي مجند إلى محافظته بمبلغ يوازي ٣-٤ آلاف دولار، والحصول في الوقت عينه على قروض هائلة من مصارف القطاع الحكومي، لأشخاص لا يحوزون أي ضمانات تقريباً، بعمولة تبلغ ٥ ٪ من القيمة الإجمالية للقرض.
وكان معظم زبائنه في تلك الفترة من شيوخ ووجهاء الرقة، الذين يؤلفون شبكة مع شيوخ ووجهاء منطقة شمال شرق سوريا، فافتتح مضافة لاستقبالهم في دمشق، قرب مشفى المواساة، ووظف فيه طباخين وعمال يقومون على خدمتهم ليل نهار. بينما قطن هو وعائلته بناية حديثة كاملة، في منطقة كفر سوسة.
القفز فوق أسوار قصر “الشعب”
حتى سنة ٢٠١٣، كان براء القاطرجي وشقيقيه يحومان حول دائرة الحكم الضيقة في دمشق، ويتعيشون من الفتات الذي يلقى إليهم من داخلها، دون أن يتاح لهم فرصة اختراقها، إلى أن جاء صيف ٢٠١٣، وسيطرت فصائل من الجيش الحر على صوامع الحبوب في الرقة، وأخرى على صوامع دير الزور، ووقع النظام في حالة عجز عن توفير رغيف الخبز لمؤيديه. وبعد أن أخفق عدة مرات في شق الطريق إلى تلك الصوامع عسكريا، بدأ البحث عمن يشتري له كميات الحبوب من الفصائل، وهنا تدخل مسؤول الحماية الشخصية لبشار الأسد، وابن عمته، ذو الهمة شاليش، ليقترح اسمي أحمد جريخ، و”رجل الأعمال الشاب” براء قاطرجي. وتقول مصادرنا، أن الفضل في هذا الترشيح يعود أيضاً للضابط نفسه، الذي رعى صعود “القاطرجي” في حلب.
وأحمد جريخ هو عضو مجلس الشعب من حلب، تشير بياناته في موقع المجلس إلى أنه من مواليد حلب سنة ١٩٤٨، وانه حاصل على الشهادة الابتدائية. وقد انتدبه النظام مع براء قاطرجي، لاستجرار الاقماح من الرقة ودير الزور، بسعر السوق الداخلي، الذي يكافئ ربع سعر القمح الأوكراني في السوق العالمية. وبعد مضي نحو شهر من الزمن، كان ثمّة مركزان كبيران لاستلام وشحن الأقماح يعملان بشكل محموم في مدينة تدمر، حيث يتم استقبال شاحنات القمح القادمة من الرقة وارسالها إلى مختلف المناطق التي مازال النظام يسيطر عليها، لكن بعد مضي مدة وجيزة، وجد الجريخ نفسه بلا أي وكيل محلي يشتري له القمح، فقد استقطبهم براء جميعاً، بفضل علاقاته ونفوذه في الرقة، فانسحب الأول، وتولى الأخير إتمام العملية منفرداً.
مع حلول صيف ٢٠١٤، وبعد أن غدت شركة “القاطرجي” مصدر رغيف الخبز في مناطق سيطرة النظام، ظهر تنظيم داعش، وهيمن على معظم المحافظات الشرقية، ومنع كل أنواع التعاملات التجارية مع نظام الأسد. لكن براء لن يجد صعوبة في تذليل هذه العقبة، وتمكن عن طريق معارفه، وبالتنسيق مع مخابرات النظام، من ابرام اتفاق ينص على استحواذ داعش على ٢٠ بالمئة من القمح الذي يشتريه في الرقة، مقابل السماح له بنقله بحرية إلى مناطق النظام، وعادت عجلة العمل للدوران، مع تفصيل إضافي، تمثل بشحن مخزون القمح الذي تسيطر عليه بقايا قوات الأسد في الحسكة نحو تدمر، مروراً بمناطق سيطرة داعش، ومقابل اقتطاع الخمس منها أيضاً.
وفي هذه الجزئية، يتهم مطلعون القاطرجي باستبدال الاقماح عالية الجودة، التي تشحن من صوامع الحسكة، بأقماح لا تصلح سوى “علفاً” للحيوانات، يشتريها وكلاؤه في الرقة بثمن بخس، ويسلمها لمؤسسات النظام، التي يعاود بيعها الاقماح عالية الجودة بأسعار مرتفعة جداً، وهو ما سمح له بمضاعفة أرباحه ورأس ماله بسرعة كبيرة.
ينكر رجال أعمال سوريين كبار، سواء كانوا مع نظام الأسد، أو ضده أن يكون “القاطرجي” حوتاً مالياً، أو حتى رجل أعمال، ويصفونه بـ”سمك السردين، الذي حظي بوجبة دسمة في مستنقع الحرب فتضخم”، وأنه في أفضل الأحوال “مجرد سمسار”، يستخدمه نظام الأسد كقفاز لإبرام صفقاته القذرة.
أحد رجال الأعمال قال في حديثه لـ “جسر” أن سبب احتقارهم له، يعود لكونه لا ينحدر من عائلة عريقة في عالم المال والأعمال، ولا ينتمي على الأقل لواحدة من عائلات سلطة الأسد المافيوية، مثل مخلوف ومعروف وغيرهما، ويسألون على سبيل الإثبات: “لكن من هو القاطرجي؟! إنه “ابن البارحة”، جاهلٌ وبلا جذور، فهل تتوقع من شخص كهذا أن يصير شيئاً؟
عرضنا في الجزء الأول من هذا التحقيق الاستقصائي رحلة آل قاطرجي من مدينة الباب الى أسوار قصر رأس النظام في دمشق، مرورا بالرقة وحلب، وكيف فتح الأبواب أمامه ضابط من القصر الجمهوري، ليصبح السمسار المعتمد في شمال شرق سوريا لدى نظام الأسد، قبل أن تمتد أذرعهم الى ثروات البلاد من قمح ونفط وغيره، ونواصل في هذا الجزء مسيرة صعود العائلة السريعة مستغلة ظروف الاحتراب داخل سوريا، وحاجة النظام لها في سعيه لإعادة إنتاج نفسه، وصولاً إلى المرحلة الأخطر في هذه الظاهرة، وهي تحولها لأداة في يد المحتل الايراني.
نفط داعش:
ليست الفرص الذهبية وحدها من واصل الظهور أمام القاطرجي، ثمّة يدٌّ خفية واصلت دفعه نحوها. ففي منتصف سنة ٢٠١٥ قرّر نظام الأسد أن يشتري النفط من تنظيم “داعش”. لم يكن الهدف اقتصادياً بحتاً، فقد كان من الملائم للأسد أن يحوز التنظيم الإرهابي، القوة التي تفزع دول العالم، فتميل لتفضيل “نظامه” عليه، وتتخلى عن مسعاها لاسقاطه.
وقد عمل على هذا الملف في وقت سابق رجل الأعمال السوري الروسي جورج حسواني، قبل أن يمطره الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة بالعقوبات، فتراجع بصمت مفسحاً المجال لبراء القاطرجي واخوته، ليستولوا على هذا القطاع بسرعة كبيرة، ودونما خوف أو تردد. وراحت قوافل صهاريجهم تقطع صحاري دير الزور والرقة نحو مناطق سيطرة نظام الأسد تحت أنظار كافة الأطراف، دون أن يعترضها أحد. بل اضيف إلى امتيازاته بند إضافي، إذ خصه النظام والتنظيم معاً، بالحقوق الحصرية لنقل البضائع إلى مناطق سيطرة داعش، وكانت سياراته تأتي محملة بالسلع، وتعود محملة بالاقماح والاقطان وغيرها.
وتجارة ونقل من وإلى تركيا
يتهم القاطرجي بالاتجار بالنفط والقمح والقطن مع تركيا عبر الحدود التي كانت تسيطر عليها داعش وفصائل الجيش الحر، ورد ذلك على لسان رجال اعمال تواصلت معهم “جسر”، وتم التلميح له في وسائل اعلام مقربة من نظام الأسد مثل صحيفة البعث الناطقة باسم الحزب الحاكم في سوريا، وصحيفة الأخبار اللبنانية، وصحيفة الوطن. كما أفادت مصادر جسر بأن القاطرجي ورد كميات هائلة من الأسمدة الكيمياوية لداعش، استخدمتها في استخلاص المتفجرات، بعلم مخابرات الأسد، وربما بتشجيع منه. ولم تصل جسر إلى شهود عيان على هذه الوقائع، لكن مصدر مطلع (فضل عدم التصريح باسمه)، كشف لجسر أن قوافل القاطرجي التجارية نشطت منذ أكثر من سنة في نقل البضائع من ميناء مرسين التركي إلى مناطق سيطرة نظام الأسد، مرورا بمناطق سيطرة الجيش الحر وجبهة النصرة، التي عقد معها جميعاً اتفاقات خاصة، تسمح بمرور شاحناته المحملة بالبضائع مقابل رسوم محددة. ويكفي أن يبرز سائقو الشاحنات “الورقة” المختومة من القاطرجي، ليعبروا كافة الحواجز بكل يسر.
والنفط من “قسد” رغم العقوبات
استمرت مجموعة القاطرجي في استجرار النفط من داعش حتى زوال سيطرته على حقول النفط الكبرى في دير الزور، خاصة حقل العمر الذي تقوم فيه اليوم قاعدة أميركية وفرنسية.
وكانت وزارة الخزينة الاميركي قد فرضت عقوبات على “محمد قاطرجي” وشركته “Katerji Group” بموجب الأمر التنفيذي رقم 13882 بتاريخ ٦/٩/٢٠١٨ والذي جاء فيه إن للقاطرجي “روابط قوية مع النظام السوري ويسهل تجارة الوقود بين النظام وتنظيم داعش، بما في ذلك توفير المنتجات النفطية إلى الأراضى الخاضعة لسيطرة داعش”. وأن للقاطرجي أيضا “علاقة عمل قوية مع العديد من المسؤولين داخل الحكومة السورية، بما في ذلك عدّة عقود مع وزارة النفط السورية ووزارة التجارة السورية” و” إن القاطرجي يتولى أنشطة الاستيراد والتصدير في سوريا ويساعد في نقل الأسلحة والذخائر تحت ذريعة استيراد المواد الغذائية وتصديرها، وكانت هذه الشحنات تتم تحت إشراف إدارة المخابرات العامة السورية التي سبق للولايات المتحدة أن أدرجتها على لائحة العقوبات”. و”إن شركة القاطرجي الكائنة في دمشق هي شركة نقل بالشاحنات سبق لها أن شحنت أسلحة من العراق إلى سوريا”. وهي ” وكيل حصرى لتوفير إمدادات إلى المناطق التي يسيطر عليها تنظيم داعش ، بما في ذلك النفط والسلع الأخرى ، وذلك ضمن صفقة تجارية في العام 2016 بين الحكومة السورية وداعش”.
كما وفرض الاتحاد الأوربي عقوبات على مجموعة القاطرجي، محددة اسم “حسام قاطرجي ” فقط، في الشهر الأول من سنة ٢٠١٩.
لكن على الرغم من كل هذه العقوبات، ما زالت شركة القاطرجي تستجر النفط بكميات كبيرة من المناطق التي تحميها قوات أميركية وفرنسية، وتديرها حليفتهم، قوات سوريا الديمقراطية. وقد تمكن مراسل “جسر” من تسجيل فيديو بتاريخ ٩/١/٢٠١٩، في منطقة العالية، بريف الحسكة الجنوبي، حيث استأجر القاطرجي مساحة ٢٠٠٠ دنم من “قسد”، واتخذها كمرآب واستراحة لصهاريج النفط القادمة من حقول النفط المختلفة، وشاحنات نقل القمح من صوامع العالية.
وتظهر في الفيديو قافلة طويلة لصهاريج القاطرجي (قدرها المراسل بـ٢٠٠)، وهي تنقل النفط من مناطق سيطرة قسد إلى النظام السوري، كما تظهر بوضوح صوامع العالية المعروفة، جنوب رأس العين على الطريق الدولي الذي يربط القامشلي بحلب، والتي تقع منذ زمن طويل تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية.
و”قوات القاطرجي”:
منذ أن بدأت نشاطات القاطرجي بالاتساع، في سنة ٢٠١٣، بدأ بتجنيد حراس لحماية قوافله، اطلق عليهم اسم “الترفيق”، وفي مرحلة لاحقة بدأ بدفع رواتب ونفقات الميلشيات المسيطرة على طرق تنقّل شاحناته، خاصة طريق الرقة أثريا، وهي بمعظمها ميلشيات إيرانية. وفي نهاية سنة ٢٠١٧، ظهرت ميلشيا خاصة به، مكونة في غالبيتها من أبناء عشائر شمال شرق سوريا، باسم “قوات القاطرجي”، وأعلن عن تأسيسها في منزل أحد شيوخ قبيلة العفادلة، واشتركت بشكل مؤكد في معارك الريف الشرقي لكل من حمص وحماة، ومعارك الغوطة ودير الزور وريف حلب الجنوبي، وزجّ بها إلى جانب الوحدات الكردية في معركة عفرين بمواجهة الجيش التركي وفصائل من المعارضة السورية نهاية سنة ٢٠١٧. وحصلت جسر على اسماء عدد من قتلى هذه الميلشيا في كل من الغوطة وعفرين.
ويتمتع عناصر وقادة الميلشيا بحصانة تمنع محاسبتهم أو اعتقالهم، وعلى سبيل المثال تناقلت وسائل إعلام محليّة خبر اختطاف “أبو حيّة العموري” وهو قيادي سابق في الجيش الحر والفصائل الإسلامية، قام بإجراء مصالحة مع النظام. لكن الاستخبارات المعروفة بالأمن العسكري، وهو أحد أجهزة امن النظام الرئيسية، طالب به على خلفية ظهوره في فيديوهات مشاركاً يشارك بقتل جنود وضباط للنظام، فرفضت ميلشيا القاطرجي تسليمه، مما اضطر الأمن العسكري لنصب كمين له واختطافه. ويقدر عدد المسلحين التابعين مباشرة لقاطرجي بنحو الفي عنصر. أما الميلشيات الملتزم بدفع رواتبها ونفقاتها فغير معروف.
“امبراطورية” آل القاطرجي
يملك الأشقاء الثلاثة، على نحو معلن Katerji Group، وهي تضم الشركات التالية:“شركة قاطرجي للصناعات الهندسية الميكانيكية المغفلة المساهمة الخاصة”، ” شركة أرفادا البترولية “، ” شركة حلب المساهمة المغفلة الخاصة القابضة “، ” شركة أليب للاستشارات والحلول التقنية “، ” شركة جذور للزراعة وتربية الحيوان”، “فولاذ للصناعة المعدنية”، ” شركة آرمان للإدارة الفندقية والسياحية “، وتعود ملكية معظم هذه الشركات للأشقاء الثلاثة بالنسب التالية: محمد براء ٣٤٪، حسام٣٣٪، محمد آغا ٣٣٪.
ويفيد مقربون إن العائلة تمتلك أيضاً ثلاث شركات في لبنان مسجّلة بأسماء رجال أعمال لبنانيين مقربون من حزب الله. كما أحصى مطلعون على القيود العقارية مالا يقل عن ٧٧ عقارا مسجلاً باسم أفراد من العائلة في سوريا، منها نحو ٣٠ عقاراً باهظ الثمن.
وتفاوتت تقديرات رجال أعمال سوريين ومقربون من العائلة لثروتها، فخفضها البعض إلى ٥٠ مليون دولار، واصحابها يقولون أنه مجرد سمسار، (دوره وظيفي وعوائده تنحصر بالعمولات) فيما تقدر فئة أخرى أن ثروته أكثر من ذلك، لكنه لا يملك السيطرة الكاملة عليها، وهو ليس حوت مال بالمعنى الدارج في السوق، بل مجرد اخطبوط بأذرع متعددة، لكنها هلامية وستتقطع عند تلقيه أول صربة؛ وثمّة فئة ثالثة قدرت أن الثروة الاجمالية تقدر بأكثر من ٣٠٠ مليار ليرة سورية (تلامس المليار دولار)، ووضعه ثابت ومستقر، لارتباطه بأجندة سياسية إقليمية ودولية.
مالٌ لا حارس له منهوب!
كل مال لا يقوم عليه حارس، سينهب ولا شك، فكيف إذا تعلق الأمر بثروة كبيرة كالتي يديرها القاطرجي، وفي غابة تعج بالمافيات والميلشيات المسلحة مثل سوريا. ولقد عرفنا أن العائلة في بداياتها قد تمّت حمايتها من قبل مافيات المال والاستخبارات، لكن هذه ما عادت اليوم بالقوة نفسها، ناهيك عن أنها لا تستطيع حتى في عزّ قوتها أن ترعى ظاهرة بهذا الحجم، فمن هو حامي وضامن ثروة القاطرجي؟
تتقاطع مصادر جسر عند إيران، المتحكمة بنظام الأسد حالياً، والمتغلغلة عسكريا وأمنياً وسياسياً في كافة مفاصل السلطة والمجتمع، والتي تدير أيضا مشروعاً إقليمياً واسعا بغرض فرض الهيمنة والنفوذ.
يقول أحد المصادر لجسر، إن “براء قاطرجي” جزء عضوي من المشروع الإيراني في سوريا منذ سنة ٢٠١٧، وإن التحقيق الذي نشرته صحيفة الأخبار الممولة من إيران، هو صدى إعلامي لحملة امنية منظمة شنت عليه بشكل مفاجئ، وفتحت ملفات قديمة نسبياً، كان مداناً فيها بشكل واضح، كما تم التلويح بفتح الملفات الأخطر، التي تراكمت في مرحلة الصراع، وفيها تهم خطيرة قابلة للإثبات، باختلاس كميات من القمح، وسرقة أموال من الخط الائتماني الايراني بالعملة الصعبة، وتقديم دعم لوجستي عسكري لداعش، وبعبارة مختصرة “اصطياد الحوت”، وهو ما أشار إليه عنوان مقال صحيفة الأخبار حينها.
ووفق المصدر، فإن براء القاطرجي، هرع إلى لضاحية بيروت الجنوبية، طالباً حماية حزب الله من “أجهزة النظام”، التي بدا كما لو أنها تعمل على الموضوع باستقلالية، وفي مكاتب الحزب عرضت عليه شروط الحماية، وهي الانخراط الكامل في الخطة الايرانية في سوريا، فوافق عليها دون أي تحفظات، بما فيها بند يلزمه بدفع مبلغ ثلاثة مليار ليرة سورية لـ”جهات” داخل النظام السوري، نظير حمايتها له في السنوات السابقة، التي اتاحت له تكوين هذه الثروة.
تقول صحيفة الأخبار ذاتها، في عدد يوم السبت 16 كانون الأول 2017 إن القضية التي رفعت ضد القاطرجي، واعترف فيها المتهمون والشهود بدوره فيها، غيروا اقوالهم أمام القضاء، وادعوا إنها انتزعت منهم تحت الضغط، وقبل منهم هذا الزعم فوراً.
شركات تجارية بوظائف ساسيّة
مصدر جسر أنف الذكر، قال إن المطلوب ايرانياً من القاطرجي اليوم هما مهمتين محددتين: الأولى كبح النفوذ الاقتصادي التركي في حلب، ولهذا أنشأ القاطرجي شركة “حلب القابضة” برأس مال بلغ مليار ليرة سورية، وجاء في ” قرار تأسيس الشركة الذي صدر عن وزارة التجارة الداخلية، بأنها قادرة على ممارسة كل الأنشطة المسموح بها قانونياً، من تجارية إلى صناعية إلى زراعية إلى عقارية”.
ووفق المصدر، هذا جزء من خطة إيرانية أوسع على الصعيد الاقتصادي، تستهدف إزاحة طبقة التجار السنة من مدينتي دمشق وحلب، الذين يهيمنون على الاقتصاد السوري تاريخياً، واستبدالهم بوجوه سنيّة من خارج هاتين العاصمتين (سامر الفوز من اللاذقية، القاطرجي من شرق سوريا…)، على أن تكون صناعة وإبراز هؤلاء مرهوناً بخدمة النفوذ الإيراني واستمراره، وهو ما لا يمكن اشتراطه على طبقة التجار التقليدية المكتفية نسبياً بخبرتها ورؤوس أموالها، والداعمة لنظام الأسد على أساس من بعض النديّة، وفق الصيغة التي أرساها حافظ الأسد في الثمانينات والتسعينيات من القرن المنصرم.
أما المهمة الثانية فتتمثل باختراق الكتلة القبلية في شمال شرق سوريا، واستغلال حاجتها وضعفها لربطها بالمشروع الإيراني، سواء من الناحية الدينية العقائدية، عبر بثّ التشيع في صفوفها، أوتجنيدها عسكريا وامنياً لصالح الأجهزة الإيرانية، ولتحقيق هذه الغاية كلف بزيادة استقطاب شيوخ ووجهاء عشائر تلك المنطقة والسيطرة عليهم.
وهو ما أكده لجسر مصدر عشائري، قال: “لا يردّ القاطرجي اليوم زائراً عشائرياً، يستقبلهم بكل الودّ مهما تدنى شأن واحدهم، ولا يخرج من عنده زائر إلا وفي جيبه (اعطيّة) ، تتفاوت حسب أهمية هذا الشخص، لكن المبلغ لا يقل عن ألف دولار لصغار الوجهاء، ويصل إلى خمسة آلاف لبعضهم، أما شيوخ القبائل الكبيرة، فلهم راتب ثابت، وشقة مستأجرة على نفقة القاطرجي. وعلى سبيل المثال يقيم محمد فيصل الهويدي، شيخ قبيلة العفادلة، في بناية القاطرجي بكفر سوسة، يحيط به خدم وحشم، كما يتمتع بوضع مشابه الدكتور حازم عبد السلام العجيلي، احد وجهاء قبيلة البكارة في الرقة، التي يدعي القاطرجي نسبته إليها، وتدعي بدورها الانتساب إلى آل البيت، وتعتبر من القبائل الأساسية التي تستهدفها الدعاية الإيرانية ومحاولات بث التشيع بين ابنائها.
وقد تجلى نفوذ القاطرجي المتزايد في البيئة القبلية مؤخراً، عندما دعا لاجتماع قبلي في بلدة اثريا يوم ٢٥/١/ ٢٠١٩، فتقاطر إليه نحو ٥٠٠٠ شيخ قبيلة ووجيه عشائري، ناهيك عن مئات آخرين لم تسمح لهم “قسد” بالوصول إلى مكان الاجتماع. وعند وصوله إلى المكان، أطلق ٨٤ معتقلاً من أبناء العشائر لدى النظام، كان قد جلبهم بباصات خاصة، أكراماً لضيوفه من أبناء القبائل على حدّ قوله!
وكان لافتاً أيضاً حضور وفد عشائري من لبنان، تترأسه قبيلة النعيم التي تتقرب منها إيران بسبب زعمها الاتصال نسبا بالحسن بن علي، ووفد من قبائل العراق الشيعية المنضوي زعماؤها في الحشد الشعبي التابع لإيران.
فرخ الحوت.. يعوم بالمياه الايرانية
ظهر على الساحة مؤخراً، اسم أحمد بشير بن محمد براء قاطرجي(من مواليد ١٩٩٩) كشريك رئيسي ومدير لبعض الشركات الجديدة، وعلى رأسها شركة “آرمان”، للإدارة الفندقية والسياحة، التي أسست يوم ١٩/٣/٢٠١٨، ويمتلك ٨٠٠ حصة في الشركة، نسبتها ٨٠٪ من أسهمها، برأس مال قدره ٤٠ مليون ليرة سورية. ويقول المقربون منه، أن الشركة أنشئت بغرض تسهيل زيارة و “استضافة” الحجاج الإيرانيين، من جهة، وتسهيل وصول الزوار السوريين إلى العتبات المقدسة في كربلاء وقم وغيرهما من جهة أخرى، وأن اسمها “آرمان” مأخوذ من اللغة الفارسية، وهي مفردة تعني: المثالي، أو الطموح، أو المتطلع…