تيسير خلف
يحتوي الأرشيف الإمبراطوري الصيني على الكثير من الوثائق التي تتحدث عن العلاقات القديمة مع العرب المسلمين، منذ عهد الخليفة عثمان بن عفان، وحتى العصر الأيوبي. وثمة في هذا الأرشيف كتاب يسمى سجل الشعوب الأجنبية، يتضمن معلومات مفصلة عن الشعوب والممالك التي قامت بينها وبين الإمبراطوريات الصينية علاقات تجارية ودبلوماسية.
ورغم أن هذا السجلّ مختصر إلى حد كبير، إلا أنه يحيل في بعض الأحيان إلى تقارير مفصلة سابقة، قد يرجع بعضها إلى مئات السنين. واللافت أن الصينيين كانوا ينظرون إلى العالم الواقع إلى الغرب منهم بعيون فارسية، والسبب أن علاقاتهم مع الفرس قديمة وعميقة، واستمرّت طوال الفترة البارثية في القرن الثاني قبل الميلاد، حتى سقوط السلالة الساسانية عام 651 ميلادية.
والسجلّ الذي استقينا منه هذه المعلومات ترجمه إلى اللغة الإنكليزية كل من: فريدريش هيرث ودبليو دبليو روكهيل عام 1912، وصدر بعنوان “العلاقات التجارية الصينية والعربية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر” عن الأكاديمية الإمبراطورية للعلوم في سانت بطرسبورغ. وقد حاول المترجمان التعامل مع المصطلحات الصينية بأقصى قدر من الحذر والتبصُّر، نظراً لصعوبة إيجاد معادلات معروفة لأسماء الأماكن المقصودة. ومع ذلك وفقا في سعيهما إلى حد كبير. وحافظا في نقلهما للنصوص على حرفيّتها لأن هذه الحرفية تعبّر عن رؤية الصينيين للآخر في تلك الأوقات.
موقع بلاد العرب
في البداية يحدد التقرير موقع بلاد العرب وكيفية الوصول إليها فيقول: “تقع بلاد العرب (تاتشي) إلى الغرب والشمال من الهند، على مسافة كبيرة جداً منها، لذلك تجد السفن الأجنبية صعوبة بالغة في التوجه إلى هناك مباشرة. بعد أن تغادر هذه السفن الهند، تصل في غضون أربعين يوماً إلى شمالي سومطرة، حيث يعقد هناك سوق للمتاجرة. في بعض الأعوام، حين تكون الرياح هادئة تستغرق الرحلة ستين يوماً. يتم جلب معظم منتجات البلاد العربية إلى مملكة سانفوتسي (في بلاد الملايو)، حيث يتم بيعها للتجار الذين يرسلونها إلى الصين”.
وفي وصفه لبلاد العرب وسكانها يقول: “بلاد العرب قوية ومليئة بالحروب، وتمتدّ على مساحات كبيرة جداً، وأهلها يتفوّقون على جميع سكّان العالم الأجانب بقدرتهم على الصبر والتحمُّل. جزء من مناخ بلاد العرب بارد، يتساقط الثلج فيه، ويصل ارتفاعه إلى خمس أقدام أو قدمين أو ثلاث؛ وبالتالي فإن البُسط ثمينة للغاية”.
وصف السلطان والعرش
وبما أن كاتب هذا التقرير كان معاصراً للعصر الأيوبي فقد أكد أن عاصمة بلاد العرب تقع في مصر، ويقول: “هي مركز مهم للتجارة الخارجية مع باقي الشعوب. الملك يلبس عمامة من الديباج الحريري والقطن الأجنبي. في كلّ شهر جديد مع اكتمال القمر، يرتدي غطاء رأس من الذهب الخالص، مرصع بأغلى المجوهرات في العالم. رداؤه من الديباج الحريري، ويتحزم بنطاق مزين بحجر اليشم. ويرتدي بقدميه حذاءً ذهبياً. في مقر إقامته، كانت هناك أعمدة وأقواس حجرية، وجدران من الحجر الشفاف، والبلاط من الكريستال الصخري. أما الستائر فهي مصنوعة من البروكار بتصاميم غنية منسوجة بجميع أنواع الألوان من الحرير وخيوط الذهب الخالص”.
ويتابع وصفه لبلاط السلطان الأيوبي، وهو على الأرجح الملك العادل، شقيق صلاح الدين، فيقول إن “عرشه مرصّع باللآلئ والأحجار الكريمة، ودرجات العرش مغطاة بالذهب الخالص. الأثاث والتحف المختلفة حول العرش من الذهب أو الفضة، وثمة لآلئ ثمينة معقودة في حاجز خلفه. في مراسم البلاط الكبير، يجلس الملك في هذه الأبهة، يحيط به وزراء الدولة وهم يحملون تروساً وخوذات ذهبية، ومسلحين بالسيوف الثمينة. لديه ضباط آخرون، كل واحد منهم يقود نحو عشرين ألف فارس. يبلغ ارتفاع الخيول العربية سبع أقدام، وهي مدرعة بالحديد. وجيش العرب شجاع ومتفوق في جميع المعارك والتدريبات العسكرية”.
شوارع وبيوت القاهرة
ويستطرد الكتاب في وصف شوارع وبيوت القاهرة فيقول: “يبلغ عرض شوارع العاصمة أكثر من خمسين قدماً. في الوسط طريق عرضه عشرون قدماً وارتفاعه أربع أقدام لاستخدام الإبل والخيول والثيران التي تحمل البضائع. على كلا الجانبين، طرق مخصصة للمشاة لتأمين الراحة لهم، وتوجد أرصفة مرصوفة بأحجار خضراء وسوداء رائعة الجمال. بيوت السكان مثل بيوت الصينيين، مع ذلك ثمة اختلاف، حيث يتم استخدام أحجار ألواح البلاط الرقيقة”.
ويقول إن طعام سكان العاصمة يتكون من الأرز والحبوب الأخرى، إضافة إلى لحم الضأن المطهو مع شريحة من العجين، والذي يعتبر طعاماً شهياً، بينما يعيش الفقراء على الأسماك والخضروات والفاكهة فقط. ويفضلون الأطباق الحلوة. ولديهم نبيذ من عصير العنب، وكذلك مشروب مغلي من السكّر والتوابل. ويضيف أن التجار الأثرياء جداً يستخدمون موازين خاصة بالذهب أو الفضة، بدلاً من الموازين المعروفة في المعاملات التجارية. ويصف الأسواق بقوله: “الأسواق صاخبة ومكتظة، ومليئة بمخزون كبير من الذهب والفضة، والأقمشة المطرزة وما شابه ذلك من البضائع. ويتمتع الحرفيون بمهارة فنية حقيقية”.
المعتقدات وحياة الفلاحين
أما معتقدات السكان فيقول إن الملك والمسؤولين والشعب يسعون لبلوغ الجنة. ويشير إلى وجود شخص مقدّس عندهم مثل بوذا يسمونه ماهياوو، وهو على الأرجح النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ويقول إنهم يقصون شعرهم وأظافرهم في كل سبعة أيام. وفي كل سنة يصومون لمدة شهر كامل ويرددون خلال الصوم الصلوات. أما الصلاة فهي خمس مرات، في اليوم يؤدونها بهدف بلوغ الجنة.
وفي وصفه لحياة الفلاحين يقول: “يعمل الفلاحون في حقولهم دون خوف من الفيضانات أو الجفاف؛ وهناك مقادير كافية من المياه للريّ من خلال نهر لا أحد يعرف مصدره. خلال الفصل الذي لا يزرعون فيه، يظل منسوب النهر مواكباً للضفة؛ ومع بداية فصل الزراعة يبدأ بالارتفاع يوما بعد يوم. وهناك شخص مسؤول عن مراقبة النهر وانتظار أعلى منسوب للمياه، وعندما يحل فصل الشمس ويحصد الناس محاصيلهم يكون لديهم ما يكفي من المياه، ثم يعود النهر إلى مستواه السابق”.
ميناء مصر وتجارتها
يشير السجل إلى وجود ميناء في مصر بعمق يزيد عن مائتي قدم، وعلى جانبي هذا المرفأ، يقيم الناس مساكنهم وهنا ينصبون سوقاً يومياً، ويتم حشد القوارب والعربات، وكلها محملة بالقنب والقمح والدخن والفول والسكر والوجبات والزيت والحطب والطيور والأغنام والإوز والبط والأسماك والجمبري وكعك التمر، والعنب والفواكه الأخرى.
ويقول إن منتجات بلاد العرب “تتكوّن من اللؤلؤ، والعاج، وقرون وحيد القرن، واللبان، والعنبر، والقرنفل، وجوزة الطيب الجاوي، والصبار، والمر، ودم التنين، والآس، والزجاج المعتم والشفاف، والصدف، والمرجان، وعيون القطط، وزهور الغردينيا، وماء الورد، والجوز، والشمع الأصفر، والبروكار الذهبي الناعم، وقماش شعر الجمل، والقطن”.
بعثة دبلوماسية من عهد عثمان
في وصفه لتاريخ بلاد العرب المسلمين يقول إن هذا البلد كان تابعاً للفرس. وفي فترة تايي، من سلالة سوي (التي تعادل 605-617 ميلادي)، ظهر هناك رجل راجح العقل وحكيم، دعا الناس للاجتماع، وحصل على الأسلحة وضم الأتباع الذين زاد عددهم تدريجياً حتى أصبح قوياً، بما يكفي لجعل نفسه ملكاً، ثم استولى على الجانب الغربي من مملكة الفرس. والمقصود كما هو واضح ظهور النبي محمد، وفترة الفتوحات الإسلامية.
ويضيف أنه في فترة يونغ هيو، من سلالة تانغ (التي تعادل 650-656 ميلادي) “حضر مبعوثون من بلاد العرب مراراً وتكراراً إلى بلاط ملكِنا لتقديم الهدايا”. والمقصود بذلك التقرير المعنون بـ”تاتشي من تونغديان”، والذي يلخص نتائج البعثة الدبلوماسية التي أرسلها معاوية بن أبي سفيان في فترة الخليفة عثمان بن عفان لإقامة علاقات تجارية ودبلوماسية مباشرة، بعد عام واحد من نهاية آخر ملوك الفرس الساسانيين قبل ذلك بعام واحد.
ومما جاء في التقرير: “في البداية كان هناك بدوي تابع للفرس في تلك المنطقة باركه الإله بسيف… بدأ هذا الرجل في استدعاء البدو الآخرين حوله. كان هناك أحد عشر شخصاً هم أول من وصلوا وآمنوا به، وتم تكريسهم كفرسان مثل الملوك الفرس. وقد اتبعه المزيد والمزيد من الناس. وجمعوا في نهاية المطاف جيشاً أطاح بلاد فارس نفسها، وغزا مدن فولين (بيزنطة) وبولومين (الهند). وجميع أعدائهم لم يكونوا في قوّتهم. كان لديهم أكثر من 420.000 جندي. وخلال 34 سنة، توفّي الملك الأول وتولّى العرش الفارس البدوي الأوّل الذي عينه بيده. في وقتنا تم تتويج الملك الثالث لهذه الدولة. لدى رجالهم أنوف طويلة وكبيرة. وهم نحيفون وذوو بشرة سمراء، ولهم لحى كاملة. ونساؤهم جميلات. لديهم أيضاً شكل من أشكال الكتابة، على الرغم من أنها كانت مختلفة عن كتابة بلاد فارس. أرضهم تحتوي على العديد من الحيوانات المختلفة، بما في ذلك الجمال والخيول والحمير والبغال والظباء. لم تنجح الزراعة في أرضهم التي تتكون من الصخور والرمال؛ وبسبب هذا، كان نظامهم الغذائي يتكون في الغالب من لحوم الجمال والخيول واللحوم الأخرى. بعد فتح بلاد فارس وفولين (بيزنطة)، بدأ العرب بتجارة الأرزّ ودقيق القمح. كما يقال إن الملك غالباً ما يرسل السفن التجارية إلى البحر محمّلة بالملابس والأطعمة”.
العباسيون وبغداد
يذكر تقرير سجلّ الشعوب الأجنبية أن ملوك العرب من بني مروان كان يطلق عليهم اسم العرب ذوي الأردية البيضاء، بينما جماعة أبو العباس كان يطلق عليهم اسم العرب ذوي الأردية السوداء. ويقول السجل إنه في هذه الفترة كانت رحلة هينغ كين حاملاً الهدايا إلى المناطق الغربية؛ وبهذه المناسبة تم تسليم رسالة إمبراطورية إلى ملكهم لتجديد التعاون والعلاقات الودية. والمقصود هنا زيارة المبعوث الصيني للبلاط العباسي في عهد أبي جعفر المنصور، حيث وصف بغداد بقوله: إنها “السوق العام للسكان الأصليين في “الجنة الغربية”، وهي المكان الذي يتجمع فيه التجار الأجانب. يرتدي الملك الذي يطلق عليه لقب “ما ليفو”، عمامة من الحرير عليها حروف مطرّزة بالذهب. والعرش الذي يجلس عليه مغطى بسجادة حريرية. في قصر الملك يستخدمون الكريستال في صنع الأعمدة، والجص على شكل بلاط. وتكثر الستائر على الجدران. للقصر سبع بوابات، يحرس كل منها ثلاثون رجلاً”.
وفي وصفه لسكان بغداد في ذلك الزمن قال إنهم: “طوال القامة ولهم بشرة مشرقة، إلى حد ما مثل الصينيين، وفي الكتابة يستخدمون أحرفا خاصة. إنهم يقصون شعرهم ويرتدون أثواباً مطرزة. لديهم أيضاً عربات صغيرة مغطاة بقماش أبيض وعليها أعلام. وعلى طول الطرق توجد محارس مرتفعة بينها أبراج للمراقبة. وفي الطريق، يمكن مصادفة العديد من الأسود التي تهاجم المسافرين وتلتهمهم إن كانوا أقل من مائة مسافر مسلح تسليحاً جيداً”.
صلاة الخليفة
يذكر السجل أن هناك نفقاً يصل القصر بمكان العبادة، ويقصد المسجد طبعاً، ويضيف أن الملك، أي الخليفة “نادرا ما يخرج إلا لترديد الصلوات والعبادة. وفي اليوم السابع من الأسبوع (الجمعة) يذهب عن طريق النفق إلى قاعة العبادة، ويجلس في جناح يضم أكثر من خمسين رجلاً. لكن قلة من الناس يعرفون وجه الخليفة، فإذا خرج يركب حصانًا مظللًا بمظلة، ورأس حصانه مزين بالذهب واليشم واللؤلؤ وغيرها من المجوهرات”.
ويشير إلى وجود حكّام آخرين في المقاطعات التابعة لخليفة بغداد يرسلون الخراج، ويقول: “إذا حصل تمرد يرسل ملك العرب قوات عسكرية للحفاظ على النظام. ويضيف أن طعامهم يتكون بشكل أساسي من الأطباق المطبوخة والخبز واللحوم. ولا يشربون الخمر. ويستخدمون الأواني المصنوعة من الذهب والفضة، ويستخدمون المغارف، وبعد تناول الوجبات، يغسلون أيديهم في أوعية ذهبية مليئة بالماء”.
سجلّ تاريخي
ويتابع السجل تعداد الوفود التي أرسلها ملوك العرب إلى الصين خلال الفترات الزمنية الممتدة فيقول: “في السنة الأولى من فترة كاي باو (تعادل 968 ميلادي) أرسلوا مبعوثين إلى بلادنا، وفي السنة الرابعة (971 ميلادي) أرسلوا هدايا مع تشان شونغ وشو بو إلى لي يو (أحد ملوك المدن) ولم يجرؤ يو على قبولها، لذلك تقدم مبعوثون إلى البلاط الإمبراطوري، وصدر أمر في المجلس بإحضار الهدايا من الآن فصاعداً”.
ويقول إنه “في السنة الرابعة من فترة شون هوا (993 ميلادي) أرسلوا لنا الهدايا مع مبعوث صرح أمام الحضور في القاعة العامة في القصر أن بلده من بلاد العرب (تاتشي)، وأنه ينتج العاج وقرن وحيد القرن، وسأله الإمبراطور تاي تسونغ كيف تحصلون على عاج الفيلة وقرن وحيد القرن؟ فأجاب: من أجل اصطياد الأفيال، نستخدم أفيالاً مزيفة تمثل فخاً، لنقترب منها كثيراً حتى نتمكن من الإمساك بها بحبل كبير. أما القبض على وحيد القرن، فيتسلق رجل بقوس وسهم شجرة كبيرة، حيث يراقب الحيوان حتى يتمكن من إطلاق السهم عليه وقتله. وصغار وحيد القرن لا تطلق السهام عليهم نظراً لسوهلة الإمساك بهم. وقد تم إهداء المبعوث لباساً، وقبعة وحزاماً، مقداراً من الذهب”.
ويضيف السجل: “في السنة الثالثة من فترة يونغ هاي (986 ميلادي) جاء مبعوثو العرب إلى القصر بمهمة، وفي السنة السادسة من مين بينغ (1003 ميلادي) أرسلوا مبعوثين. وفي السنة الأولى من كينغ تو (1004 ميلادي) بقي المبعوث العربي في العاصمة، مع مبعوثين من بلاد أخرى للاحتفال بعيد الفوانيس، وقد تمت معاملتهم في هذه المناسبة بما يرضي قلوبهم بالمال والنبيذ. وفي السنة الرابعة (1007 ميلادي) رافقوا الإمبراطور شانغ شونغ في مهمة تكريمية، وكانوا مستمتعين في هذه المناسبة ونالوا اهتماماً كبيراً، وسمح لهم أيضاً بزيارة المعابد البوذية والطاوية، والحدائق والمتنزهات الإمبراطورية”.
ويتابع السجلّ تعداد البعثات العربية إلى الصين إلى أن يصل إلى ذكر بعض التجار العرب الذين استقروا في الصين، ومنهم شخص اسمه بالكتابة الصينية “ووسيهولوهو” بلغ من العمر مائة وثلاثين عاماً. كان لديه حلقان في الأذن، وكان يتمتع بوسامة كبيرة. وكان يبدي إعجابه بحضارة الإمبراطورية، وقد أهداه الإمبراطور رداءً من الديباج وحزاما فضيا، وأضاف إليه قطعة من الحرير.
المصدر: العربي الجديد