جسر: رأي:
كان الرئيس فلاديمير بوتين وسيبقى رجل إستخبارات غامض، ولن يكون رجل دولة معلن، حتى ولو حكم روسيا خمسين عاماً..وحتى ولو بقي في سوريا مئة عام.
مرسومه الاخير الذي أعلن فيه، بشكل موارب ليس له مبرر، عزمه تعزيز الوجود العسكري الروسي على السواحل والاراضي السورية، يعبر عن شخصيته الاستخباراتية وسلوكه الأمني الذي يعتبر أن السياسة هي فن إثارة المفاجآت، والاستفسارات، والالتباسات، ما يضيع الخصوم ويشل قدرتهم على الرد.
المرسوم الرئاسي الروسي الصادر هذا الاسبوع، مازال يخضع للدرس في مختلف عواصم العالم التي تحاول تفكيك عناصر الحقيقة من الخداع، وتسأل عما يقصده بوتين من تلك الخطوة المفاجئة التي تبدو في الظاهر خارج التطور المنطقي للسياسة الروسية ، ولا للواقع السوري، ولا لأي منطق سياسي، أو حتى إستخباراتي.
التفسير الأقرب الى الصواب، هو أن بوتين شعر بالتشجيع من الاشارة الاميركية الاخيرة التي وجهها المبعوث الاميركي جيمس جيفري عندما قال في شهادة أمام الكونغرس، بصريح العبارة “أن واشنطن لم تطالب يوماً ولن تطالب أبداً بخروج القوات الروسية من سوريا التي تقيم علاقات مميزة مع روسيا منذ أكثر من ثلاثين عاماً”..وهو موقف أميركي ثابت منذ بدء التدخل العسكري الروسي في سوريا في أيلول سبتمبر العام 2015، الذي قيل يومها أنه حصل مسبقاً على ضوء أخضر من واشنطن، ما زال سارياً حتى الآن، بدليل العمليات الجوية المنسقة في السماء السورية، والدوريات البرية المشتركة التي إفتتحت هذا الاسبوع في الشرق السوري، في خطوة لم يسبق لها مثيل في تاريخ العلاقات بين الدولتين العظميين اللتين خاضتا حربا باردة أمتدت نحو نصف قرن.
وعليه، من المستحيل أن يوضع المرسوم الروسي الاخير في سياق المواجهة او المنافسة مع أميركا على منطقة نفوذ ليست في الاصل جذابة أو مغرية لأحد، مثل سوريا. بل هي بقعة فراغ قديم يسده الروس اليوم، بسهولة شديدة، وبلا أي منازع، لا في الغرب ولا في الشرق ولا حتى في الاقليم.. بل بمباركة دولية شبه إجماعية.
لكن هذا المنطق، لا يفسر سبب إصدار وإعلان المرسوم الروسي بتفويض وزارتي الدفاع والخارجية التفاوض مع الحكومة السورية على حصول القوات الروسية على المزيد من المواقع البحرية والبرية في سوريا. فالجمهور الروسي ليس مهتماً الى هذا الحد بتوسع بلادهم الخارجي وإكتسابها أراضٍ وسواحل إضافية شرقي البحر المتوسط، في ظل الصعوبات الاقتصادية الشديدة التي يواجهها والتي زادت جراء غزو كورونا الاخير.
في التقليد السياسي، كان يتوقع ان يعلن بوتين صراحة أنه قرر تعزيز الوجود العسكري الروسي وتوسيعه على الساحل وفي العمق السوريين، من دون أن يتعرض لأي إستنكار او إستهجان دولي، بل ربما الى بعض الاستغراب..كونه يستكمل مغامرة روسية غير مجزية في بلد تعمّه الفوضى ويحكمه الفراغ.
في العرف الدبلوماسي، كان يفترض ان يكلف بوتين وزارتيه ، الدفاع والخارجية، بشكل سري أو غير معلن رسميا، ببدء التفاوض مع النظام السوري على توسيع الوجود الروسي في سوريا، على أن يتم الاعلان عن الامر عندما يتم التوصل الى معاهدة جديدة تنظم العلاقات بين البلدين، ويجري الاحتفال العلني بالتوقيع والشروع في تنفيذ بنود تلك المعاهدة.
ما يقال عن أن مرسوم بوتين يهدف الى وضع الرئيس السوري بشار الاسد أمام الامر الواقع، يتعارض مع التقييم الروسي الفعلي للرئاسة السورية ولشخصية بشار الذي يفقد يوماً بعد يوم المزيد من صلاحياته الرئاسية. أما ما يتردد عن أن المرسوم يجسد تقاسم سوريا بين ساحل خاضع كلياً لنفوذ روسيا وبين برٍ خاضعٍ نهائياً لنفوذ إيران، فهو تقدير خيالي لا يمت بصلة لا الى الطموح الروسي ولا الى الانكفاء الايراني.
مع ذلك، فإن البحث ما زال مستمراً عن تفسير نهائي للمرسوم الاستخباراتي الروسي الذي لا يمكن أن يكون هدفه البعيد عسكرياً فقط، ولا بد أنه موجه أيضا الى بقية الاوليغارشيا الروسية التي تتوق الى تحصيل مغانم الحرب السورية قبل فوات الأوان.. وقبل أن تتاح لرامي مخلوف مثلا، فرصة المضي قدماً في تحدي النظامين، السوري والروسي على حد سواء.
_________________________________________________________________________________
*نشر في المدن اﻷحد 31 أيار/مايو 2020، للقراءة في المصدر اضغط هنا