جسر: رأي:
في السابع من الشهر الحالي طُرح للتوقيع بيانٌ يتخوّف أصحابه من اتفاق مقبل بين الأحزاب الكردية في سوريا، ويرى واضعوه وموقعوه “الذين بلغ عددهم قرابة 800 حتى كتابة هذه السطور” في اتفاق القوى الكردية تهديداً لمستقبل وحدة الأراضي السورية، مستندين على تسريبات من المباحثات الكردية التي يُفترض دخولها الجولة الثانية قبل يومين! من بين الموقعين على البيان شخصيات كان لها دور سياسي في المجلس الوطني والائتلاف، وشخصيات عامة أخرى لم يُعرف عنها التعصب القومي أو سواه، ما جعل البيان يحظى بالانتباه، خاصة لجهة ردود الأفعال السلبية عليه من قبل الأكراد.
أهمية البيان، من حيث لا يقصد واضعوه، هي في الكشف عن تهافت التجربة السياسية في أوساط المعارضة السورية، وعدم اكتساب الخبرة التي من المأمول اكتسابها بمرور سنوات على انطلاق الثورة، وجراء تراكم الخيبات والفشل. على صعيد الشكل مثلاً، من المستغرب صدور بيان مبني على تسريبات من مباحثات قائمة، ومن الأفضل دعماً لمصداقية الموقعين عليه انتظار النتائج الرسمية لها ليُبنى عليها الموقف الذي يرتئيه أصحابه. وعلى الصعيد العملي، نعلم أن البيانات لم تعد من أدوات النشاط السياسي الفعال، فالفضاء الرقمي مليء ببيانات من كل حدب وصوب، وهي لا تلقى اهتماماً من قبل الجهات المعنية بالإصغاء إلى مطالباتها، ولم تعد في حدها الأدنى تساهم في تشكيل رأي عام.
يتهم البيان حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي وأحزاب المجلس الوطني بالسعي إلى الإبقاء على الإدارة الذاتية الحالية للحزب كأمر واقع، من أجل تطويرها إلى فيدرالية أو حكم ذاتي يهدد وحدة سوريا، وضمان ذلك مع امتيازات أخرى في الدستور المقبل. ويرى أصحاب البيان أن التفاهمات الكردية المرتقبة “تمس بشكل عام مصالح الشعب السوري، وتهدد بشكل خاص وجود باقي مكونات المنطقة (الشرقية)، وأمنهم، وعيشهم المشترك، نظراً لتجاهلها دور الغالبية من العرب والسريان والآشوريين والتركمان والأرمن والشركس وباقي الأكراد”. بينما، حسب النص، يبذل الشعب السوري التضحيات الجسام من أجل الوصول إلى دولة ديموقراطية، تبنى على المواطنة المتساوية، وسيادة القانون، وحماية الحقوق والحريات، وتحقيق حياة حرة كريمة للأجيال القادمة.
يُذكر أن أحزاب المجلس الوطني الكردي مشاركة في الائتلاف، وإذا كانت تصورات المجلس عن المسألة الكردية تتناقض تماماً مع وثائق الائتلاف وتوجهاته فلا بد من التساؤل عن سبب وجوده أو القبول به من المؤسسة التي طرحت نفسها لسنوات ممثلة للثورة. لا بد من الإشارة أيضاً إلى أن أحزاب المجلس الوطني خسرت قدراً كبيراً من شعبيتها لدى جمهورها بسبب وجودها في الائتلاف، وبسبب سياسات الأخير التي تراها الغالبية الساحقة من الأكراد ضدهم، فلا ينسى الأكراد مثلاً مباركة الائتلاف وحكومته الغزو التركي لعفرين، بصرف النظر عن انقسامهم بين مؤيد للمجلس ومناصر للإدارة الذاتية. البيان المذكور يبدو كأنه يستأنف السياق ذاته، إذ يشير إلى الانتهاكات التي ارتكبتها الإدارة الذاتية في المنطقة الشرقية، ويصمت عن نظيرتها التي ترتكبها يومياً في عفرين الفصائلُ التابعة لأنقرة.
المُستغرب في عالم السياسة هو ذلك الغضب الذي لا يخفي نفسه من اتفاق كردي-كردي، فالأحزاب الكردية موجودة كأمر واقع، ولها برامجها وتناقضاتها، ومن المستحسن توحدها حول رؤية مشتركة للمسألة الكردية في سوريا، إذا كانت النوايا صافية في الطرف المقابل. بهذا المعنى، يُفضّل وجود طرح كردي متفق عليه، ويمكن للأطراف السورية الأخرى أن ترفضه وأن تشتبك معه، أو أن تقبل بأجزاء منه وترفض أخرى. مثلما يمكن للأطراف الكردية أن تطرح أقصى طموحاتها، وأن تتفاوض للحصول على حد لا يتطابق معها. هكذا هو عالم السياسة، العالم الذي تتراوح فيه خيارات جميع القوى المتصارعة بين ما هو ممكن وما هو صعب المنال.
كان ممكناً لأصحاب البيان الإشارة إلى القضية الكردية، والنص مثلاً على حلها ضمن إطار ديموقراطي مستقبلي يرتضيه السوريون أكراداً وعرباً، إلا أنهم استعاضوا عن ذلك بإشارة يعلمون أنها غير كافية عن المواطنة المتساوية. وكان ممكناً لهم تحاشي تقرير وجود أغلبية من باقي مكونات المنطقة قياساً إلى الأكراد، فمزاعم كل طرف حول الأغلبية الديموغرافية هي من فولكلور الانقسام العربي-الكردي الذي يستحيل امتحانه حالياً “أو في المستقبل المنظور” لعدم خضوع المنطقة لسلطات ديموقراطية محايدة، وبسبب عمليات التهجير التي طاولت الجميع. ثم إن التقسيمات الإدارية غير مقدسة، لا الحالية منها ولا السابقة، إذا افترضنا التوصل مستقبلاً إلى اتفاق يمنح الأكراد وضعاً خاصاً ضمن الدولة السورية.
نعلم جميعاً، ويعلم واضعو البيان، أن القضية السورية برمتها ليست اليوم في أيدي السوريين، والقوى الدولية والإقليمية الموجودة على الأراضي السورية هي من يتحكم بالقوى المحلية التابعة. ومن أهم مظاهر إفلات القضية السورية من أيدي أصحابها عدم وجود معارضة معترف بتمثيلها وأهليتها، وهذه مسألة تتقدم في الأولويات على التصدي لتقارب كردي-كردي، إذا لم نقل أن حدوث التقارب ينبغي أن يقدّم مثلاً يُحتذى به للمعارضين العرب الذين عجزوا خلال سنوات عن خلق أطر معارضة محترمة، وعجزوا تالياً عن تقديم تصورات “ثورية” لمستقبل سوريا، باستثناء مبادرات قليلة جداً غلب عليها الطابع الفردي.
وإذا كان النشاط السياسي يُقاس بالجدوى المتوخاة منه فإن الأثر الأكبر للبيان هو استفزاز الأكراد الذي يتطلعون لأسباب عديدة إلى اتفاق كردي، والتعميم هنا جائز بسبب الصفة التمثيلية لحزب الاتحاد الديموقراطي وأحزاب المجلس الوطني، أي لصعوبة الزعم أن هؤلاء لا يمثلون الأكراد. وبطبيعة الحال لم تخالف ردود الأفعال الكردية ما بات معهوداً من شتائم واتهامات بحق العرب جميعاً، أو إطلاق أحكام قاطعة باستحالة التعايش معهم، وردود الأفعال الغاضبة هذه ليست أقرب للسياسة من البيان الذي استفزها، لأن الطرفين جرّبا الحرب بديلاً عن التفاهم ودفعا ثمنها غالياً.
لقد اعتدنا على استخدام تعبير “سياسة الإنكار”، والصحيح أن الإنكار ليس سياسة، من أي طرف أتى.
_____________________________________________________________________________________
* نشر في المدن السبت 13 حزيران/يونيو 2020، للقراءة في المصدر اضغط هنا