جسر – صحافة
في أزّقة مُعتمة وزوايا لا يدخلها الضوء، وعلى موائد مظلمة بسبب انقطاع الكهرباء، في مقابل قصور لامعة وأساطيل من سيارات، تدور أحداث مسلسل “كسر عضم” من تأليف علي معين صالح وإخراج رشا شربتجي، وإنتاج شركة كلاكيت والذي يرصد فترة زمنية صعبة على السوريين عموماً يلفّها اليأس والسوداوية من كلّ شيء ويبيع فيها الإنسان السوري نفسه وأعضاءه في أبنية مهجورة وخراباتٍ منسيّة، منتظراً أن يتحنّن عليه السيد الكبير بعطاء نزير.
ولكن رغم ذلك، يبدو أن الحلقتين الأخيرتين 16 و 17 (عند كتابة هذه المادة) جلت كثيراً من عتم بادٍ مكتنزٍ في كثير من تفصيلات القصة المشوّقة التي يسوقها المسلسل، فالقصة البسيطة والتي تقوم على شخصية (الحكم الصياد) والذي يؤدي دوره الفنان فايز قزق، والمتحكم بكل شيء في البلاد، فكأنما مسّه شيءٌ من الألوهة والتي تتفجّرُ جبروتاً وعظمةً قد تكون إسقاطاً (مقصوداً أو غير مقصود) للحالة التي عاشتها سوريا خلال خمسين عاماً من حكم عائلة الأسد بكلّ تفاصيلها.
فهل قصد صناع العمل ذلك أم أنها مجرد مصادفات قد تحدث في أي عمل درامي؟ فـ “الحكم الصياد” صاحب السلطة المؤلّه والمتحكم بكل شيء في البلاد والذي يتحدث عن ملايين الدولارات على أنها مجرد “فراطة” يشبه إلى حدّ بعيد شخصية حافظ الأسد الذي حكم سوريا بالحديد والنار مُنقلباً على رفاق الدرب، ومؤسساً لإمبراطورية متينة تحكمها شبكة واسعة من المصالح المشتركة والويل والثبور لمن يقول فيها لا! فهو يرى كما يقول لابنه ريان: “هدول جنس غريب من البشر بتجلدن عمر كامل ما بتسمع صوتهن بتحرق أرواحهن دهر كامل ما يسترجو يطالعو دخان”.
قصة مقتل باسل الأسد ما تزال لغزاً إلى الآن وسط عدد من الروايات أهمها الرواية الرسمية التي قالت إنها نتيجة حادث مروري
الوريث الجديد
أما علاقة الحكم الصياد مع ابنه ريان الضابط برتبة رائد يا -للمفارقة- وهي كانت رتبة باسل الأسد قبل أن يقضي نحبه في العام 1994 فهي علاقة الأب الذي يطمح بتوريث ابنه مجداً بناه على أنقاضٍ من قرابين بشرية سفك دماءها طوال حياته، إلا أن الشاب كان يرى حياته في طريق آخر لدرجة دفعت به إلى مجابهة والده والانتحار لاحقاً، غير أن قصة مقتل باسل الأسد ما تزال لغزاً إلى الآن وسط عدد من الروايات أهمها الرواية الرسمية التي قالت إنها نتيجة حادث مروري.
قد تبدو الفرضية لبرهةٍ غير ناضجة بعض الشيء أو بعيدة وذلك نتيجة تباين تفاصيل شخصية ريان مع شخصية باسل الأسد إلا أن ما كشفته الحلقة 16 في مشهد جمع الحكم الصياد مع ولده الثاني “يسار” ساق بتلك الفرضية إلى فلك المنطق أكثر، فالحكم يخاطب ولده الذي كان يجبره على لعب الشطرنج موجّهاً له خلاصة تجربته في الحياة، وطالباً منه أن يكون الوريث القادم له، قائلاً إن “شرعة الدواب هيه الماشية وهيه اللي بتحلل لحم الغزال للفهد، وطعم الخسارة مرّ ولازم يضل تحت لسانك لحتى ترجع تحارب وتربح”.
يضيف الحكم موجهاً كلامه ليسار: “إنت جاهز لحتى ننزل على أرض الواقع؟” فيردّ يسار: “ما فهمت”، ليعود الحكم ويقول: “ولو يا يسار ما عندك ثقة تقول لأبوك جاهز وبعدين بتفهم كل شي” فيدير يسار وجهه لتعيده يد الحكم مرة أخرى قائلاً: شو يا يسار؟ فيرد يسار: جاهز!
حَكم والخدّام
وبالانتقال إلى شخصية أكثر جدلية في المسلسل سنرى هناك أبو مريم اليد اليمنى لـ “الحكم” والمتحكّم أيضاً بكل شيء في البلاد مستمداً سلطة ولي نعمته، والذي لا يمكن لمشكلة أن تمر منه دون أن يجد لها حلاً، ففي الحلقة 11 يصور العمل في مشهد فلاش باك قبل 20 عاماً كيف تعرف أبو مريم على الحكم إذ سعى للقاء به عارضاً عليه أن يكون “عبداً” و”كلب مصالحه الوفي” ولاحقاً في مشهد الاعتراف بمرض الإيدز يقول أبو مريم في تلك اللحظة: “عمر وأنا بحس حالي خدام وصبي عندك”، فهل كان صناع العمل يريدون الإشارة إلى عبد الحليم خدام الذي رافق الأسد طيلة مسيرة حكمه ونائبه ويده الطولى التي ضرب بها، قد يقول قائل ربما وقد يرى آخرون استحالة الأمر، ولكن الحلقة 16 التي عرف فيها أبو مريم إصابة الحكم بمرض الإيدز قرر الكذب عليه، فقال إن نتيجته سليمة وأنه غير مصاب، في الوقت الذي بدأ يتواصل فيه مع المحامي مطالباً إياه بتحويل أملاكه وعقاراته إلى “ورق” في إشارة لقراره الفرار والانشقاق.
يقوم الحكم الصياد بإرسال (علا) والتي أوصل لها فيروس الإيدز إلى بيروت من أجل إجراء التحليل، فهل كان ذلك للإشارة إلى أن المدام علا تمثل لبنان والتي كانت بمثابة الزوجة الثانية للأسد الأب
قد يكون كل ما سبق من باب المصادفة، وقد لا يعثر المستند على هذه الفرضية على تطابق كامل بينها وبين شخوص العمل، إلا أن إشارات معينة قد تقود إليها بطريقة غير مباشرة كزواج الحكم من (علا) شقيقة (المقدم فيصل) في الحلقة الثانية لتصبح زوجته الثانية والتي تقضي جلّ وقتها في لبنان عند والدتها الأمر الذي تمت الإشارة إليه في الحلقة الثانية من العمل، عندما أظهر صناع العمل الزواج كزواج مصلحة ليعلّق عليه الحكم بقوله: “السلطة ما بتزور حدا ببيتو، السلطة تنتزع إما بالتبني أو التوريث وهدول بيلعب فيهم القدر أكتر من الاختيارات الشخصية بيضل الخيار التالت ويمكن يكون هو الأهم، تدعم موقعك بالسلطة عند اللزوم بالمصاهرة”.
ولاحقاً يقوم الحكم الصياد بإرسال (علا) والتي أوصل لها فيروس الإيدز إلى بيروت من أجل إجراء التحليل، فهل كان ذلك للإشارة إلى أن المدام علا تمثل لبنان والتي كانت بمثابة الزوجة الثانية للأسد الأب والذي أورثه حافظ الأسد فيروس القتل والفساد والرعب.
قد لا تبدو 17 حلقة من مسلسل “كسر عضم” والذي يحقق أعلى نسب المشاهدة في السباق الرمضاني الدرامي، كافيةً لإطلاق قراءة نقدية متوازنة موضوعية، خاصةً مع الضجيج المترافق مع عرض حلقات العمل والمتواصل يومياً على منصات مواقع التواصل والذي يشكّل قوامُه الأساس أزمات تتعلق بالشركة المنتجة واتهامات بسرقة النص، وصولاً إلى الاعتراضات الأخرى التي قد نالت من العمل.
فإذا أُخذ بالاعتبار أن تعديلات شبه جذرية قد طرأت على النصّ الذي كتبه فؤاد حميرة قبل 11 عاماً (حياة مالحة) والذي كان اتهم شركة الإنتاج بسرقة فكرته أو ثيمته الأساسية، فيمكن هنا احتمالية أن تكون تلك الإشارات قد أريد لها أن تكون ضمن العمل (بعلم أو بغير علم الجهة المنتجة) والتي إن كانت تدري فتلك مصيبة (لكونها محسوبة على الطرف الموالي للنظام) وإن كانت لا تدري فالمصيبة أعظم.