سمير سليمان
“إن لم تستطيعوا جعل الناس يحبونكم، فاجعلوهم يهابونكم”، وصية مؤسس عائلة روتشيلد “ماير آمشيل روتشيلد” لأبنائه.
خارجية الطائفة العلوية، بما يعني شكل وجودها الاجتماعي، وبما يعني أيضاً شروط استمرار هذا الوجود، وهويتها، ومكونات هذه الهوية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وبيئتها الحياتية العامة، بغناها أو بفقرها، وعلاقتها بالأرض التي تمنحها مقومات العيش وبملكية هذه الأرض، كل هذا، وليس مذهبها الديني الباطني، هو ما جعل منها فئة اجتماعية متمايزة و”منفصلة” نسبياً عن مجتمعها الأوسع، مطرودة منه ومعزولة عنه ومعادية له بقوة الواقع، وبتكريس ودفع واستقطاب تتكفل به على الدوام العقائد الدينية وممثلوها من جميع الجهات: الطائفة ذاتها و”أعداؤها” من بقية الطوائف. وخصوصاً الطائفة السنية صاحبة السلطة العليا في المجتمع السوري المسلم. وهو ما أحال العلويين في نهاية الحقبة العثمانية إلى طائفة خارجية أو “طائفة وظيفية بالقوة”ـوهو تعبير سيتضح معناه على الفور في هذا المقال- طائفة شاءت أقدار سورية السياسية والإقليمية أن توفّر لها في مرحلة لاحقة فرصة التحقّق الواقعي والتحول إلى “طائفة وظيفية بالفعل”.
ونستعمل هنا تعبيري “وظيفية” و”خارجية” كأداتي تحليل بالمعنى ذاته الذي يعتمده الدكتور عبد الوهاب المسيري في أطروحته الجديرة بالنظر في النماذج المركبة وفي مفهوم “الطائفة الوظيفية” على وجه الخصوص. ويستفيد الكاتب المذكور من هذا المفهوم كأداة لكشف الظروف التاريخية التي يدرسها ويحللها في مؤلفه “دفاع عن الإنسان”، والتي جعلت من اليهود طائفة وظيفية في أوروبا منذ بداية عصر النهضة حتى اليوم، والتي تشبه إلى حد كبير تلك الظروف التاريخية التي جعلت من العلويين طائفة وظيفية بالقوة، حيث بقيت كياناً مذهبياً، لتتحول لاحقاً وبالتدريج مع حزب البعث كمرحلة أولى، ثم مع الدولة الأسدية كمرحلة ثانية وأخيرة، إلى طائفة وظيفية بالفعل، أي إلى كيان سياسي.
ودون أن نتبنى المنهج الفكري للدكتور المسيري، فإننا نستفيد من مفهوم الوظيفية كأداة تحليل لفهم هذا الانتقال النوعي للطائفة العلوية، على مستوى الهوية ومستوى الفعل السياسي، ولنتابع مسار التحول من وظيفية كائنة بالقوة، حيث تبقى الطائفة كياناً مذهبياً، إلى وظيفية قائمة بالفعل، حيث تتحول إلى كيان سياسي بفضل دورها الوظيفي الجديد.وهو التحوّل الذي تكشّف في محصلته عن تلك الثمرة السامّة لذلك اللقاء التاريخي بين المسارين التاريخيين المشار لهما أعلاه، مسار الطائفة العلوية المتخارجة عن مجتمعها ومسار الدولة السورية في تقلباتها المنتهية بالانقلاب البعثي ثم بالانقلاب الأسدي. فهذا التلاقي هو ما أنتج العلوية السياسية (الثمرة السامة) كتعبير عن تغيّرات بنيوية أصابت الطائفة العلوية ككيان مذهبي سياسي بدأ يستمد هويته من خلال علاقته الأداتية مع السلطة ودوره الوظيفي تجاهها، ويتفاعل، على أرضية متنضّدة ومتزامنة من المشاركة والمواجهة، والتعايش والعداء، مع بقية المجتمع السوري، من خلال هذا الدور. وتجدر الإشارة أنه في هذا التفاعل المزدوج والمتناقض مع السلطة من جهة ومع المجتمع من جهة أخرى، تم إنتاج كل أشكال سوء الفهم المكرّس، والذي طبع النقاش العام حول علاقة النظام الأسدي بالعلويين، وحول الحدود الفاصلة بين ما هو سياسي وما هو ديني عند النظام الأسدي. وهو أساس التشوّش في الوعي السياسي حول بنية هذا النظام، وطائفيته، وعلمانيته، وعلاقته ببقية الطوائف السورية وخصوصاً الطائفة السنية الكبيرة بتعدادها ووزنها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، والشروط المحددة لهذه العلاقة. وهو النقاش الذي لم يستطع أن يتحرر من طغيان الفكر الديني بطبعته الطائفية السنية لأسباب عديدة لا مجال لذكرها هنا ويعرفها الجميع.
ما هي إذن الشروط والمحددات التاريخية التي جعلت من العلويين جماعة “خارجية ” في المجتمع السوري، وأهّلتهم ليلعبوا دوراً وظيفياً هاماً، كأفراد أو ككيان اجتماعي مذهبي، في بناء وصيانة دولة الأسد في مواجهة موت مع بقية المجتمع السوري؟ وما هي التحولات العميقة التي أفقدتهم القدرة على الانفكاك عن هذه الدولة حتى بعد أن تحولت إلى آلة قتل جماعي ومطحنة بشرية لقتل البشر وتدمير المدن وتفتيت المجتمع والكيان السوريين؟
ثلاثة محددات أساسية، تاريخية وليست دينية، عملت على عزل الطائفة العلوية عن السياق العام للمجتمع السوري، وجعلت منها طائفة خارجية بالنسبة لمجتمعها. ونكتفي هنا فقط بذكر هذه المحددات الثلاثة معوّلين على فطنة القارئ وثقافته في إدراك أهميتها وتأثيرها في إعطاء العلويين هويتهم الخصوصية، وكيف جعلت منها طائفة خارجية في توضعها الاجتماعي العام وفي تشكّل ضميرها ومخيالها الذي يؤطّرها كجماعة ترى نفسها منبوذة اجتماعياً ومحرومة سياسياً وحقوقياً دون وجه حق، بحسب إيديولوجيتها، وبسبب تعسف معايير (دينية ومذهبية سنّية) تتنافى والدين الحق كما تراه هي بموجب قناعات راسخة شكّلت أرضية المخيال الشعبي للعلويين في المرحلة العثمانية، ومنها نُسِجت خيوط سردية مظلوميتهم الخاصة في تلك المرحلة من التاريخ.
الشرط الأول: النبذ المكاني للعلويين من المدن – الحرمان من التمدّن
المدينة ليست فقط هي الحيّز الجغرافي المحدّد الذي يحوي عدداً كبيراً من الناس والبيوت. فتوفّر عدد كبير نسبياً من الناس المستقرين في أماكن سكنهم وعملهم ونشاطاتهم هو شرط لازم لتعريف المدينة، ولكنه لا يكفيه. إذ تتعرّف المدينة أساساً بالنشاطات المتبادلة التي يمارسها هؤلاء الناس، والتي من خلالها تتولّد فيما بينهم علاقات اجتماعية وثقافية تتجاوز أطر وحدود علاقات القرابة الطبيعية والعائلية التي توفّرها القرية أو البادية، وتكتفي بها إلى أن تمزقها العلاقات الحضرية المدينية.
فالمدينة والحديث هنا يدور عن المدينة المشرقية ماقبل الاستعمار الغربي ـ هي السوق، وهي الورشة المهنية، والمقهى والمدرسة والجامع. وفيها يسكن الزعماء المحليون، والقناصل الأجنبيون. وإليها يأتي القادة السياسيون، والدينيون. وفيها ممثلو الحكومة، والمراكز العسكرية. وفي ساحاتها المركزية يخطب القادة السياسيون أمام الجمهور المجتمع. وفيها تتم الاحتفالات الدينية، والمهرجانات الشعبية. وفيها توزع الصحف، وإليها تأتي الأخبار من المدن البعيدة عبر المواني أو قوافل التجار، وفيها يتلاقى مواطنوها مع الغرباء والأجانب والمستشرقين.
فالمدينة باختصار هي البيئة التي تنبني فيها وبواسطتها شخصية الفرد الاجتماعية، وعبرها يتخفّف الإنسان من بربريته، ويتمدّن. فالتمدّن ليس سوى النشاط الاجتماعي والثقافي للبشر المتنوعين في تفاعلهم السلمي المتبادل والمستمر. وأسلوب الحياة الذي تتطلبه المدينة في تطورها السلمي هو ما ينتج التمدّن. وغياب هذا الأسلوب يبقي الطابع البدوي أو الريفي الخشن والفظّ. فليس إذن من تمدن، ولا ثقافة مدنية، بلا مدن. والسمات الاجتماعية العامة للشخصية العلوية التي عاشت بعيدة عن حياة المدينة، وفي توق لها حتى بداية القرن العشرين، تؤكد على واقعية وصحة الربط بين سمات ظاهرة للرعاعية النسبية عند الشخص الاجتماعي وبين حياته التي يعيشها في قطيعة مع المدينة ومع مجتمع المدينة. كما أن فكرة ترييف المدن السورية أو ترييف المجتمع السوري أو الدولة السورية والثقافة السورية في العهد البعثي بكل مراحله في السلطة، تجد أساسها في هيمنة الجماعات الريفية وفي نمط حياتها، والتي أعطت عموم المجتمع السوري صورتها عبر توسط الدولة والسلطة، وعبر صلاحيات هيمنة تسلطية غير مقوننة وغير محدودة. كما أن البغض المحتقن الذي أظهره علويون كثر في النظام البعثي ثم الأسدي للمدن السورية وأهلها، لا يعود لأسباب تتعلق بهذه المدن أو بأهلها في العمق، وهو لم يكن فقط شرطاً ملازماً لتحقق المصالح وتقاسم الثروة بواسطة عنف السلطة، بل كان أيضاً لأسباب تعود للتركيب النفسي والثقافي الذي نجم عن عهود النفي المكاني الذي فرضته المدينة على العلوي، في نفس الوقت الذي قبلت فيه أن تتعايش مع بقية الطوائف الدينية بما فيها طائفة اليهود، وأن تقبل بها كشريك اجتماعي وسياسي في أحياء طرفية ومخصصة لها في المدينة، حيث عوملت باحترام منقوص ولكنه مقونن، باعتبارها طوائف صاحبة كتب منزلة ومعترف بها إسلامياً، وليس كما هو الحال بالنسبة للعلويين المعتبرين خارج ملة الإسلام.
الشرط الثاني: النفي السياسي – الحرمان من التمثيل السياسي
كان حرمان العلويين من حقهم بالتمثيل السياسي المكافئ لوزنهم العددي في المناطق التي يقطنونها، كان بمثابة نفي من الدولة ومن المجتمع السياسي والشأن العام الذي يهم جميع الناس. فكان، فوق أنه نفي سياسي، استكمالاً للنفي المكاني المذكور في البند السابق وتأكيداً له. وهنا أيضاً، وجد العلويون أنفسهم في بيئة معادية وبلا سند، فتشكّل مخيالهم السياسي على هذا الأساس. وفي مقارنة مع بقية الطوائف والأقليات، كما كان يُفترض بكل علوي أن يفعل، فإن هذه الأخيرة وجدت سنداً قوياً وفاعلاً في دور قناصل وسفارات الدول الغربية التي تقاسمت حماية الأقليات الطائفية جميعها باستثناء الطائفة العلوية التي لم تجد من يتبنى حمايتها من الدول الغربية الزاحفة لبسط نفوذها على الإقليم. ويزيد من قساوة الأمر أن العلويين بقوا طوال العهد العثماني مُعتَبَرين من رعايا “مولانا السلطان” من جهة واجباتهم المتوقع أن يؤدوها تجاه دولته. وعليهم دفع الضرائب كما غيرهم عبر الملتزمين بتحصيلها من مقدّمين وزعامات محلية، والذين يزيدون الضريبة بقدر مايمكنهم ذلك. وعليهم أيضاً تقديم حصّتهم من الشباب للتجنيد في حروب السلطنة التي لا تنتهي. أما تمثيلهم السياسي في الدولة والإدارة المحلية، فقد ترك لتقرير الحكام المحليين الذين كانوا يعتمدون على معايير التقسيم الديني للطوائف المعترف بها مذهبياً، وهذا ما يجعل العلويين مرة أخرى خارج الدولة يغمرهم شعور الغبن لحرمانهم من التمثيل السياسي. ولإعطاء فكرة عن مدى النفي السياسي نذكر مثالاً واحداً ورد في كتاب “تاريخ العلويين” -تاليف ستيفان وينتر وترجمة أحمد نظير أتاسي وباسل وطفة- نسخة إلكترونية: يورد الكاتب في الصفحة 322 نص وثيقة من الأرشيف العثماني تتعلق بممثلي المجلس المحلي البلدي والقضائي، نقتطع منها الفقرة التالية التي تعطينا فكرة واضحة عن الوضعية الحقوقية للعلويين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. يقول المؤلف قبل إيراد الوثيقة: ” وفي عام 1876 اندلع نزاع أكثر أهمية (في قضاء اللاذقية) وذلك عندما كان مقرراً انتخاب ممثلين للمجتمع العلوي في المجالس الإدارية والقضائية للمرة الأولى “. أما الوثيقة التي يوردها الكاتب فتقول: “وبينما انتخب ثمانية مرشحين مسلمين ومسيحيين إلى المجالس المشار إليها، عيّن مرشح واحد من طائفة النصيرية. ويمثل المسلمون والمسيحيون معاً 3000 خانة (البيوت) في قضاء اللاذقية، في حين يفوق عدد النصيريين 6000 خانة. علاوة على ذلك فالنصيريون مكلّفون وملزمون بثلثي الإسهامات المالية والعسكرية في قضاء اللاذقية” انتهى الاقتباس.
هذا النص الوارد في هذه الوثيقة، وتاريخ الحدث المتعلق به، يعطي صورة واضحة عن درجة العزل السياسي الذي كابده العلويون، وعن الحقبة الزمنية الطويلة التي عاشوها في حالة العزل السياسي هذه.
الشرط الثالث: الحرمان من ملكية الأرض ـ قوانين التملك.
قوانين الطابو العثماني التي حوّلت طبقة الفلاحي السوريين، بما فيهم العلويون، إلى أقنان يتبعون بملكية أجسادهم وأرواحهم لشريحة إقطاعية يسكن معظم أفرادها في المدن، كانت الشرط الذي مثّل النفي الاقتصادي للعلويين في موطنهم الجبلي، فاستُكمِلت بهذا الشرط الأركان الأساسية لجعل العلويين طائفة خارجية بالنسبة للمجتمع السوري. حيث استمر بها الحال حتى نهاية الثلث الأول من القرن العشرين وبداية تشكل الدولة السورية الجديدة. وهذا الشرط الاقتصادي، والذي استثنيت منه بعض الزعامات العلوية التي أصابت به ملكيات متوسطة، هو ما وفّر الأرضية المادية لانحطاط أهل الريف اجتماعياً واقتصادياً، وليس سياسياً، ووسم بالتالي العلاقة بين أهل الريف، من علويين وغير علويين، وبين أهل المدن بكراهية ريفية تجاه أهل المدن تقابل احتقارا موجّها من أهل المدن لأهل الريف. ولاحقاً، كان النزاع على ملكية الأراضي الزراعية هو السبب في أن كل الحراك السياسي السوري وكل الأحزاب الجديدة القومية واليسارية حاولت أن تستثمر في الطبقات الفلاحية تحت مطلب إعادة توزيع ملكية الأرض والتحرر من ربقة الإقطاع، وأن تستقطبها في الصراع ضد الطبقة البرجوازية وضد سياساتها الليبرالية. وهو أيضاً أساس قوانين التأميم اللاحقة، وهي القوانين التي أوقفت التطور الاقتصادي والاجتماعي وساهمت في تاسيس الدولة الشعبوية التسلطية، والتي سيظهر لبّها الفاشي لاحقاً في مواجهة الانتفاضة السورية.
تلك هي المحددات التاريخية الثلاثة التي حدّدت الهوية الخصوصية للعلويين في سورية، بمكوناتها الرئيسية: الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وهي محددات عمل الفكر السياسي الديني على تغليفها وتأطيرها وشرعنتها تحت خطاب محاربة عقيدة دينية باطنية مُنكَرة تصلح لتكون إطاراً تعريفياً مميّزاً لأصحابها. عقيدة اعتبرها المسلمون السنة أنها عقيدة مناهضة للإسلام وأن أصحابها كفرة لايستحقون أن تطبّق عليهم معايير العدالة الإسلامية. محدّدات وفّرت للطائفة العلوية أهم شرط من شروط تأهيلها كطائفة وظيفية: الشعور بوضعية خارجية بالنسبة للمجتمع العام المحيط، أي انتفاء الشعور بالانتماء لهذا الكيان المكرّس كوطن أو كمجتمع، وبواجب الالتزام بقضاياه المشتركة العامة، لا سياسياً ولا أخلاقياً. وكما هو الحال دائماً، تعزّز هذا الموقف بغطاء أخلاقي قوي وفّرته سردية المظلومية، والتي عززت عند العلويين صوابية أخلاقية يفتقدونها في علاقتهم مع سلطة الاستبداد.وشكّلت سردية المظلومية العلوية ذراع المزدوجة الآخر والمتمم للسردية الطائفية السنية حول العلويين، والتي استعاضت عن شروط الواقع التاريخي الذي شكّل الجماعة وأعطاها هويتها، بباطنية مذهب غامض يظن البعض، حتى ممن يحملون أسماء لامعة في عالم الثقافة، أنه يفسّر كل شيء عندما لا يقول شيئاً…
أما كيف بدأ انحطاط العلويين كجماعة وظيفية، ومذهبية، مع الإشارات الأولى لانحطاط دولة الأسد، فهذا موضوع يستحق مقالاً آخر. يُتبع…
المصدر: الناس نيوز