سمير سليمان
نستأنف في هذه المقالة فكرة كنا قد طرحناها للنقاش في مقالة سابقة بعنوان: “بين المذهبية والوظيفية. العلويون في دولة الأسد “، والتي تقوم على فرضية أن العلويين لم يتحالفوا مع دولة الأسد بصفتهم كياناً مذهبياً إلا من ناحية الشكل، وإنما كان كما أراده صاحبه، حافظ الأسد، أن يكون. أي بصفتهم كياناً سياسياً ضمن إطار مذهبي وعشائري، يقوم بوظيفة أمنية محددة في هذه الدولة، مقابل ثمن أن يكونوا شركاء سلطة في هذا الدور المحدد والمقصور على حماية النظام في علاقته مع المجتمع السوري. وهذا يعني أنه لم يسمح لهم بالتدخل في رسم السياسات الخارجية للنظام، لا عربياً ولا إقليمياً ولا دولياً. ولا علاقة لهم أيضاً بالقرار الاقتصادي وكيفية التصرف بالثروة الوطنية. فهم مؤيدون، شركاء ينفذون ما يُطلب منهم وحسب. ومهمتهم لا تتعدى حماية النظام من أي مخاطر داخلية كما حصل في حماة وحلب بداية ثمانينات القرن المنصرم. وهذا يعني أيضاً، وهذا شيء مهم، أن لا ارتباط شَرطيّاً بين أن تكون علوياً وبين أن تتطوّع في تنفيذ هذه المهمة، مما جعل حماية النظام والدفاع عنه، مهمة مفتوحة أمام جميع الطوائف كما بيّن واقع الصراع السياسي السوري قبل الانتفاضة وبعدها. حيث تم لاحقاً الاستغناء عن الدور الوظيفي للعلويين عندما لم يعد كافياً، واستعيض عنه بتدخل حاسم من إيران وروسيا وحزب الله، وانشقاق في المؤسسة الدينية الرسمية، وبروز دور الشق المؤيد للنظام.
وبالترافق مع تهالك سيادة النظام الأسدي على نفسه، فقد العلويون ما تبقى لهم من قيمة سياسية داخل النظام بعد أن كانوا فقدوها في المجتمع بسبب موقفهم من الانتفاضة.
يبحث هذا المقال، عبر استحضار أمثلة من التاريخ، في فكرة الوظيفية في السياسة والحوكمة، في سبيل مزيد من التوضيح.
تاريخياً، لم يكن العلويون متفردين كجماعة وظيفية تعمل في خدمة نظام سياسي قائم. فقد حصل هذا دائماً مع جماعات أخرى وبأماكن أخرى وأزمنة أخرى. فمثلاً، وجد المماليك في بداية أمرهم في التاريخ الإسلامي باعتبارهم جماعة خارجية في المجتمع الذي تواجدوا فيه، حيث عملوا على صيانة وحراسة الدولة التي صنعتهم كجماعة وظيفية، قبل أن يتطور أمرهم ليصبحوا حكاماً بعد أن أطاحوا بمخدوميهم. وقبل المماليك استعمل القادة العباسيون العرب جماعات فارسية كجماعات قتالية في صراعهم ضد الدولة الأموية، لتتطور لاحقاً هذه الجماعات وتنافس العرب على سدّة إمبراطوريتهم. وفي مثال آخر أكثر نموذجية، نجده في بنية الإمبراطورية العثمانية. فبعد استكمال فتوحاته، بدأ الجيش الانكشاري العثماني يضمّ في تشكيلاته القتالية مقاتلين كانوا أطفالاً شردتهم حروب الإمبراطورية التي اتبعت سياسة جمع الأطفال من جميع البلدان الخاضعة لها.
فبعد أن يُفصلوا عن أهلهم وبلدانهم، يتم إخضاعهم لتربية خاصة كي يكونوا في المستقبل محاربين في جيش السلطنة. فهؤلاء شكلوا جماعة وظيفية أصبحت فيما بعد عماد الجيش الانكشاري وعماد السلطنة ذاتها. إلى درجة مكّنتهم من التدخل مراراً في تحديد اسم السلطان الجديد، وقتل إخوته المنافسين عندما يرون حاجة لذلك، وأحياناً الإطاحة به كما فعلوا مع السلطان عثمان الثاني. وفي مصر استعان محمد على باشا بالالبان الذين استحضرهم معه ليستخدمهم كجماعة وظيفية في التخلص من مماليك مصر الذين كانوا ينافسونه النفوذ ويعيقون خططه في الحكم. والالبان بطبيعة الحال ” خارجيون” بالنسبة للمجتمع المصري وللمماليك على حد سواء.
أما المثال الأكثر نموذجية للجماعة الوظيفية، والأكثر تشبّهاً بالحالة العلوية التي تهمنا هنا، فهو نموذج اليهود في أوروبا في العصر الوسيط وعصر النهضة وحتى اليوم. وكيفية تلاقي مسار تشكلهم الخاص كجماعة خارجية في المجتمع المحيط، مع المسار الآخر الذي أنشأ الرأسمالية وتاريخ المال والمعاملات البنكية والمالية. وكيف نقل تلاقي هذين المسارين الجماعة اليهودية من طائفة مهمشة ومنبوذة إلى جماعة وظيفية مهيمنة مالياً ومن ثم سياسياً. وهو نفس ما جرى مع الطائفة العلوية على مقياس محلي سوري وليس أوروبياً، وعلى مستوى سياسي وليس اقتصادياً.
عاش اليهود في أوروبا، طوال العهد المسيحي وحتى ولادة الدولة الأوروبية الحديثة، ذات الشروط التي عاشها العلويون في ظل الإمبراطورية العثمانية حتى نهايتها. فمنذ نشوء اليهود في التاريخ، وخصوصاً خلال وجودهم كجزء من الإمبراطورية الرومانية بعد انتصار الدين المسيحي فيها، عُزِل اليهود كجماعة دينية “خارجية” مُحتَقَرة ومُهانة، وحرموا من تقّلد الوظائف العامة ومن المشاركة السياسية، كما حرّم عليهم العمل الزراعي واستملاك الأراضي. وعُزِلوا اجتماعياً بحصرهم مكانياً في نطاق الغيتو الخاص بهم. وتُرك أمامهم مجالان فقط للنشاط العام: المجال الكتابي والمجال المالي الربوي، فنبغوا في هذين المجالين. وهذا يشابه ما جرى مع العلويين السوريين. الذين انفتح أمامهم، مع ولادة الدولة السورية بالعهد الفرنسي وما بعده، مجالان أيضاً: المجال التعليمي الذي شمل شريحة بسيطة من الميسورين مادياً بينهم، ومجال المؤسسة العسكرية المفتوحة بأبوابها الواسعة للفقراء والمعدمين والطامحين منهم. وبالرغم من اندفاعهم في المجال الأول، إلا أنه بقي ضمن حالات فردية يمكن تعدادها. أما المجال الآخر، مجال الدولة والعسكر، فقد تسابقوا إليه جماعات وأفراداً أكثر من كل الطوائف السورية الأخرى.
وفي مرحلة لاحقة، وكما تغيرت هوية التفاصل المسيحي الأوروبي مع اليهود، من تفاصل ديني إلى تفاصل عنصري وسياسي يشمل جميع اليهود في العالم الحديث، كذلك تغيرت علاقة المجتمع السوري مع العلويين، من تفاصل طائفي مذهبي إلى تفاصل سياسي، نجم عن تصدّرهم لسلوك التسلّط المعمم باسم الدولة الأسدية وبعنفها. فتحوّل الإعجاب بهم في مرحلة أولى بسبب النجاح الذي أصابوه، إلى تهيّب منهم كأصحاب سلطة، لينتهي الأمر بكراهيتهم كأداة قتل بيد دولة الإبادة الموجهة ضد السوريين المنتفضين.
وفي حين وصل اليهود كجماعة وظيفية إلى السلطة وإلى التأثير على القرار السياسي في أهم عواصم العالم الغربي الرأسمالي عبر النفوذ المالي، استطاع العلويون أن يصلوا إلى ما يشبه ذلك على مستوى الدولة السورية، كثمن للوظيفة التي أدّوها في بناء الدولة الأسدية وإحكام هيمنتها على المجتمع السوري. ولكن “السوري الآخر”، الذي تمثله الشخصية السنية التي تقطن المدينة، والذي لم يطوّر خلال الخمسة عشر قرناً الأخيرة، سوى معايير دينية متصلّبة في رؤيته وحكمه على الأشياء، لا يرى في هذا التغير التاريخي الذي حصل مع العلويين من جهة، ومع الدولة السورية من جهة أخرى، سوى ما يريد أو يستطيع أن يراه من لبوس ديني في هذا الدور.
ولكن هذا الاختلاط الواقعي بين ما هو ديني وما هو سياسي في رؤية العلاقة بين العلويين والدولة الأسدية في الذهنية الدينية، لم يقتصر على الوضع السوري في عالم المسلمين، وهو ليس كله افتراضاً ديماغوجياً يتقصّده الإسلام السياسي في مضمون خطابه. بل فيه الكثير من الحقيقة التي يغفلها العقل البسيط، والتي تغنينا معرفتها عن أي افتراض لمؤامرة سياسية علوية. وهذه الحقيقة المغفلة التي تشرح الكثير، هي أن الهوية العلوية أضحت هوية مركّبة، بين ماضٍ فقير وبائس يخصّهم كجماعة دينية، وبين حاضر مترف بوعود الثروة والسلطة شريطة تحوّلهم لجماعة وظيفية في الدولة الأسدية. بين أن كانوا في ماضيهم جماعة متعايشة، وإن صراعياً وعلى المكشوف، مع مجتمعها المحيط، وبين أن أصبحوا جماعة متخارجة، عدائياً وإن بشكل مكبوت، عن هذا المجتمع. عدائية معه بسبب أنه أضحت متخصّصة بمواجهته حمايةً لسلطة يشعر عموم العلويون أنها تخصّهم أكثر من الجميع وتضعهم فوق الجميع. وإضافة لذلك فإن الخلط الواعي والمدروس بين الدين والسياسة كان دائماً من صلب سياسة الاستبداد ومن أهم مناهج وأدوات التحكم بالمجتمعات الطائفية في كل بلد، وكان النظام الأسدي بارعاً في تطوير هذه السياسة. فلسنا بحاجة، إذن، لفرضية العلوية السياسية كنظرية تقوم بذاتها، كي نفهم هذه الأداة كما خلقها واستعملها نظام الأسد.
أما النتيجة الأساسية الناجمة عن تغير الهوية العلوية، والذي تسبب به هذا الدور الوظيفي وأصبح مكوناً رئيسياً من مكوناتها، فهي أن هذه الطائفة لم تعد تملك قرار ولا إمكانية الانفكاك عن هذه الدولة، وهي إحدى المآسي الكبيرة التي أصابت الطائفة والمجتمع السوري ككل على حد سواء. لقد أصبحت الطائفة أسيرة وظيفتها في دولة الأسد.ومصيرهما أصبح مصيراً واحداً ومشتركاً في المجال السياسي. وهذا لا يعني فناء الطائفة بتحطم الكيان الأسدي ورحيله، بل يعني تضعضع دورها المستقبلي سياسياً واجتماعياً. وسيمر وقت طويل قبل أن تستعيد اعتبارها كطائفة فقدت رصيدها الوطني والأخلاقي في سبيل دولة الأسد، ولم يعد لها، مثلها مثل بقية الطوائف السورية، من خلاص سوى الخلاص الوطني العام الذي يشمل جميع مكونات المجتمع في الدولة الديمقراطية العلمانية التي تحترم حقوق الأفراد والجماعات.
أما العلويون كأفراد فنحن نشهد انسلاخاتهم الفردية منذ نشوء الدولة الأسدية وحتى اليوم. وهي على العموم انسلاخات عن المذهب العلوي وعن الدين عموماً على أرضية ثقافة علمانية يسهّل انتشارها بين العلويين انعدام وجود مرجعية دينية مستقلة وممثلة للطائفة مذهبياً. وانسلاخات عن الأسدية على أرضية كراهية الاستبداد والدكتاتورية في ذات الوقت. ويشكّل هذان الانسلاخان في مضمونهما السياسي انسلاخ عام عن تحالف العلويين مع نظام الأسد.لا سّيما بعدما أن تكرس الشعور أن الطائفة استغنت عن تأسيس مرجعيتها الدينية تحت الشعور المتفاخر بالوضعية الجديدة التي لا تتطلب مرجعية من جهة، وتهديد فقدانهم لدورهم الوظيفي كما أفهمهم الأسد شخصياً، من جهة أخرى. واكتفت بمرجعية سياسية مثّلها أشخاص ورموز سلطة بارزون في الجيش والأمن، كمرحلة أولى، وبتقرّب من الشيعية الدينية الإيرانية الكاسحة في البيئة العلوية، ورغماً عنها.
نحصل من هذا التحليل على نتيجة جانبية، جزئية ولكنها هامة، وهي أن الأسد هو من كان يملك المشروع المضمر والواعي لذاته في تأسيس دولته الوراثية الخاصة بسلالته والقائمة على دعم العلويين لها، فهو المؤسس الحقيقي لهذا التحالف كما كان هو المؤسس الحقيقي للدولة الأمنية التي قامت عليه. فيصحّ القول إذن أن الدولة الأسدية اخترعت “العلوية الأسدية ” كأداة لازمة لتحقيق مشروعها، بينما لايعني تعبير”الأسدية العلوية” أي شيء حقيقي في بنية السلطة. لأن الوجود العلوي في المجال السياسي السوري كان جزءاً من الأسدية ولم تكن الأسدية جزءاً من علوية سياسية سابقة عليها أو محايثة لها. والشيء لا يتعرف بجزء منه، وفي هذا جواب على سؤال وجّهه لي أحد الأصدقاء: أهي علوية أسدية أم أسدية علوية؟ .
وستتضح هذه النقطة الأخيرة في الحديث عن الكيفية التي انهارت فيها مكانة العلويين بالتدرّج وبالتوازي مع دخول عناصر لا تتعلق بهذا التحالف في بنية السلطة. بل تتعلق بتحويل الجمهورية إلى حيازة عائلية يتوارثها آل الأسد.وهي عملية شكّلت لحظة فارقة في تاريخ الجمهورية السورية، واشترطت لنجاحها قبول وتأييد قوى أخرى اقتصادية واجتماعية وإيديولوجية غير علوية. قبول وضمان إسرائيلي – أمريكي من الخارج، وإسلامي سني من الداخل السوري.
المصدر: الناس نيوز