يحظى رامي بمتابعة ضخمة من السوريين، بدلالة أرقام المشاهدات التي حاز عليها التسجيلان السابقان. دافع المتابعة الأهم، فضلاً عن الفضول العابر والتسلية، ليس ما قاله حتى الآن وإنما ترقب تفاقم الخلاف بحيث يدفعه إلى قول ما يتحفظ عليه. نحن أمام لعبة فيها من الإيروتيك بقدر ما فيها من المسكوت عنه؛ الجمهور ينتظر حركة تسفر عن طرف منه، بينما يتمنع صاحب الأسرار وكأنه يتلاعب بالخصم والجمهور معاً.
كنا قبل ثمانية أشهر مع صعود المصري محمد علي، وكانت له أسبقية استخدام السوشيال ميديا لفضح نظام السيسي من قبل واحد من الذين خبروا فساده. عتبة الفضح التي تخطاها محمد علي بعيدة جداً عما تعِد به إطلالات رامي حتى الآن، ووجه الشبه قد يقتصر على استخدام وسائل التواصل، وربما يقترح الحضور الخفي لأسماء الأسد وجه شبه آخر إذا استرجعنا تصويب محمد علي على “انتصار” زوجة السيسي، وما يوحيه ذلك التصويب أحياناً من أرجحية عقلية لها بالمقارنة مع خفة زوجها الذي كان محمد علي يؤكد على تصغيره وتحقيره بنعوت من قبيل “واطي، جزمة…”. الحق أن إغراء الاختلاف بين الظاهرتين يفوق إغراء التشابه، ولعل الاختلاف يضيء لنا على خصوصية الحالة السورية، الحالة التي لم يبرز منها محمد علي رغم توافر الظروف خلال السنوات الأخيرة من أجل ذلك.
عبر التسجيلات التي بثها، لم يكن محمد علي يمثّل دوراً مُعدَّاً، هو الذي عمل في حقل التمثيل. كان يظهر على سجيته، أو يعزز لدينا القناعة بعفويته، بكل ما للعفوية من جوانب محببة وأخرى تُظهر سطحيته المقرونة أحياناً بغرور وتعالٍ. قدّم لنا محمد علي نفسه عصامياً، لنا أن نفهم أنه فهلوي، استطاع تكوين شركة مقاولات صعدت لتصبح بين أول عشر شركات في مصر، ولتنال حصة مرموقة من مقاولات الجيش الذي بحسب ما يقول يسيطر على أموال مصر.
في المقابل، يزعم رامي أن الله سخّره بالثروة التي يملكها من أجل خدمة الفقراء. لننسَ مؤقتاً استخدام الألفاظ الدينية؛ أهم ما في الأمر استخدام الله للتهرب من أي حديث عن كيفية حصوله على الأموال الطائلة بمعايير الفقراء الذين يزعم مخاطبتهم والحرص عليهم. هو حتى عندما يتظلم من الضرائب الباهظة المفروضة على شركة الاتصالات يبدي استعداده باستخفاف لدفعها، وكأنه يقرّ بضآلتها بالقياس إلى ما يملك، أو إلى الأملاك التي هي موضوع نزاع بينه وبين بشار.
ثمة فرق بين الاثنين، قد يلخصه عجز رامي عن القول “أنا واحد منكم”، في حين يستطيع محمد علي قولها ببساطة، وعندما يقول “أهلي وناسي” يبدو متحدثاً عمّن يعرفهم وعاش معهم حقاً. الأخير لا يملك شعوراً خفياً بالذنب إزاء “أهله وناسه”، ومع إقراره بفقرهم المدقع لا يخجل من الرفاه الذي عاشه ويعيشه، بموجب قناعته بأنه حصل عليه بجهده وتعبه. بسبب تحرره من عقدة الانتماء، لم يتوسل محمد علي لغة تقربه من العموم، بل كان قادراً على مخاطبة أدنى درجات الإسفاف بلا شعور بالحرج ينتاب عادة أولئك الهاربين من جذورهم أو الذين انقطعت الأواصر التي تربطهم بها.
عشر سنوات، هي بمثابة جيل بين رامي ومحمد علي، إلا أن التراتب الجيلي معكوس في حالتهما. رامي الأكبر سناً هو وريث الثروة والفساد، ومحمد علي الأصغر سناً هو صانع الثروة وشريك الفساد. في الحالتين يرتبط الفساد بالسلطة، لكن مع الجيل الثاني الذي يمثّله رامي أمامنا أشخاص تربوا في تلك البيئة الضيقة، بيئة أشباههم من الورثة، وهم لا يدركون ما يحدث خارجها. هم أبناء السلطة المطلقة التي تشربوها منذ طفولتهم بلا جهد، وأيضاً بلا أسئلة حولها أو عن ماهيتها. هم بالأحرى ماهيتها التي ينبغي ألا تخضع للسؤال، وإذا كان من صراع حولها فهو صراع الأشباه، والذين خارج تلك الدائرة الضيقة هم أدوات على نحو ما نُظر إليهم دائماً.
ثمة فكرة في عقل رامي، مفادها التلازم بين الدين والبسطاء والفقراء. بتبسيطها أكثر، يصلح الدين دائماً للعبث بعقول الفقراء الساذجين، فهم لا يعون مصالحهم، أو لا مصالح لهم أصلاً بوصفهم أدوات ليس إلا. بشار من قبله، ومع انطلاق الثورة، لعب على وتر تقديم “تنازلات” دينية لم يطالب بها أحد حينذاك، مفترضاً أن غرائز السوريين الدينية أقوى من مصالحهم ومطالباتهم بالحرية.
الاستثمار في الدين، قبل أن يكون استخفافاً بقيمته الروحية، هو أولاً استخفاف بعقول من يُنظر إليهم كبسطاء. ما يُسجّل لمحمد علي أنه كان خارج هذا الاستثمار وعدّته، فلا زهد ولا ورع مزعومين، بل رجل يحب التمتع بملذات الحياة، ويرى في المتع حقاً للجميع. نموذجه الذي دأب على طرحه، بتبسيط مضحك، هو الغرب بديموقراطيته وحرياته الشخصية والاقتصادية، بينما يترافق الاستثمار في الدين لدى رامي مخلوف مع التمسك بجوهر السلطة، سلطة المخابرات والجيش، مع إبداء التذمر من القمع فقط عندما طاول بعض كبار موظفيه، وصار يتهدد بعض أملاكه.
خرج محمد علي مخاطباً المصريين بعد نجاح السيسي في ترهيبهم، أي في ظرف يصعب المراهنة معه على الفوز. بالمقارنة، لدى رامي ظروف أفضل بكثير لو امتلك جرأة الكشف عما في جعبته من دون أقنعة لن تفيده أمام الشريحة التي يريد كسب تعاطفها، وتجعله أضحوكة أمام شرائح أخرى. المسألة ليست فقط في عجز رامي عن الإقدام على الانتحار الرمزي، بكشف الصندوق الأسود الذي يُعدّ واحداً من خباياه، هي في أن أحداً آخر من حلقة السلطة “تحديداً بعد الثورة” لم يُقدِم على ما لا يريد هو الإقدام عليه. كأن سوريا تفتقر إلى “ابن بلد” على غرار محمد علي، وكأن شرط المشاركة في الأسدية هو الاغتراب الكلي عن أهلها وناسها.
المصدر: المدن/ ١٢ أيار ٢٠٢٠