جسر: متابعات:
نجحت روسيا منذ تدخلها في الملف السوري، نهاية أيلول/سبتمبر بقلب مجريات الأحداث لصالح النظام على المستويين العسكري والسياسي. وسيطرت موسكو على مطار حميميم العسكري غربي البلاد بشكل كامل وحولته إلى قاعدة جوية، نشرت فيها عشرات القاذفات الروسية متنوعة القياس.
وقصفت البحرية الروسية مواقع عشوائية للمدنيين بعشرين من الصواريخ الجوالة “كروز” في الأسبوع الأول من تشرين الأول/أكتوبر، وذلك بواسطة قاذفات القنابل الاستراتيجية الروسية “تو-160″ و”تو-95إم إس” المتمركزتين في بحر قزوين، وكان الهدف إيصال رسائل للأطراف الداعمة للمعارضة السورية وعلى رأسها أمريكا على قوة التدخل العسكري الروسي.
لم يقتصر التدخل الروسي يومها على المساندة الجوية والصواريخ العابرة للبحار، بل سعت روسيا منذ اليوم الأول لمحاولة لملمة وإنقاذ الجيش المتداعي خصوصا بعد الهزيمة الكبيرة المتمثلة بطرد النظام من محافظة إدلب إلى حدود سهل الغاب. وهو ما سعت إليه القيادة العسكرية الروسية قبل بدء هجومها الجوي. حيث عمدت إلى تشكيل قوة ضاربة تكون تحت أمرتها وتشكل رأس حربة في الهجوم البري ضد المعارضة. وبالفعل شكلت الفيلق الرابع الذي تكون من كتائب منتدبة من وحدات غير متجانسة مثل اللواء 103 حرس جمهوري وفوجين من القوات الخاصة وعدد من كتائب الدفاع الوطني المتطوعين في اللاذقية. وقدر المحلل العسكري الروسي أنطون لافروف في دراسة حول كفاءة القوات المسلحة السورية نشرها في مركز كارنغي في آذار/مارس الماضي، أعداد مقاتلي الفيلق الرابع بقرابة ألفي مقاتل موزعين على 20 كتيبة.
وقامت الوحدات الفنية الروسية بمساعدة نظيرتها السورية في إصلاح المدرعات والآليات. وأخضع الضباط الروس مجندي الفيلق وعناصره إلى دورات تدريب سريعة. وفشلت التجربة الروسية بإنشاء قوة عسكرية برية يقودها مستشارون عسكريون (حسب التوصيف الروسي) ولم يتمكن الفيلق من إحراز فارق على الأرض في المعركة التي أطلقتها غرفة العمليات الروسية في جبال اللاذقية وسهل الغاب. وهو ما دفع روسيا لاتخاذ قرار تشكيل جديد تسخر له موارد مالية وعسكرية كافية هو الفيلق خامس اقتحام. وتكون تبعيته إليها مباشرة. فقامت بحل بعض الميليشيات المحلية لإعادة دمجها في الفيلق الجديد مثل كتائب البعث وصقور الصحراء ومغاوير البحر.
وسعت وزارة الدفاع الروسية إلى أن تضم 25 ألفا من المقاتلين ينضوون في ثمانية ألوية، وفتحت باب التطوع وحاولت استقطاب الضباط المتقاعدين وخصوصا أولئك الذين درسوا في روسيا أو أقاموا فيها والتحقوا بدروات القيادة والأركان. واعتقدت الدفاع الروسية أنها من خلال هذا الفيلق ستتمكن من توجيه آلة الحرب بدون مساعدة، وستكون قادرة على الحسم العسكري في مواجهة الفصائل الرافضة للاستسلام والتسوية.
نجحت روسيا إلى حد ما في تأسيس فيلق مستقل تابع لها، كلنه بقي عديم الفاعلية، ولم يملك القوة الضاربة التي كان يرجوها الروس عند تشكيله. واستوعب الفيلق عناصر المصالحة والتسوية خصوصا مقاتلي فرقة شباب السنة في اللواء الثامن. وبقيت قوات النمر التي يقودها العميد سهيل حسن وتتبع المخابرات الجوية، أفضل التشكيلات شبه الرسمية، وأكثرها تفوقا وتمرسا بالقتال مقارنة بوحدات جيش النظام والفيلق الروسي. ورغم أن المخابرات الجوية تعتبر أكثر الأجهزة الأمنية ابتعادا عن موسكو، إلا أنها اختارت دعم الحسن وأصبح رجلها الأقوى وأصبح الجهاز الأمني أكثر قرباً بعد إقالة جميل الحسن وتعيين خلف له. وحظي الحسن بحماية خاصة من المخابرات العسكرية الروسية، ودعمت القيادة الروسية النمر لتوسعة وحدته شبه الرسمية، وتشكيل الفرقة 25 مهام خاصة، والتي كانت القوة الضاربة خلال عام من المعارك الأخيرة في شمال غربي سوريا.
ويشير المحلل الروسي إلى دور بلاده في سوء التكتيك وقلة الخبرة في جيش النظام الذي يعتمد على طواقم مدرعات تفتقر إلى التدريب الكافي بسبب استخدامهم للطراز القديم من المدرعات عديم التأثير في ميدان القتال. وقدمت الدفاع الروسية أكثر من ألف طن من قطع غيار المدرعات.
وأنشأت رحبات جديدة لصيانة الدبابات في حمص واللاذقية وجبلة. وبعد ثلاثة أعوام على التدخل أصلح الروس 2800 مدرعة وآلية. وقد سمح مثل هذا المستوى العالي من الدعم للقوات البرية في البلاد بالحفاظ على بعض القدرة القتالية للمدرعات على مر السنين، على الرغم من الخسائر الهائلة.
بعد نجاح الخطة الروسية في فرض نموذجها العسكري، وإنشاء قوة منافسة للثقل العسكري الإيراني المتمثل بأفواج الدفاع المحلي والفرقة الرابعة التي باتت تستوعب عددا كبيرا من الميليشيات الإيرانية، توجهت روسيا لقصقصة أجنحة إيران وتحجيم نفوذها في المخابرات العسكرية والجوية، وهو ما تمثل بتغيير قادة الأجهزة الأمنية في تموز/يوليو 2019 متزامنا مع تمدد للنفوذ الروسي داخلها. وتحاول روسيا إعادة التوازن للجهازين المقربين من إيران بعد أن استعادت قوتها ووضعت ضباطا مقربين منها في مناصب قيادية في أفرع التحقيق والمعلومات وداخل الإدارات نفسها. لكن هذا التدبير لن يكون كافيا بسبب السياسة التي اعتمدتها إيران باكرا من خلال استمالة الضباط الأصغر سنا وقربهم منها.
ومع ازدياد مساحة سيطرة النظام السوري مجدداـ استحقت الفواتير الروسية موعد سدادها وبدأت موسكو تستحوذ على الاستثمارات الهامة في سوريا كحقول الفوسفات والنفط والغاز، وميناء طرطوس التجاري وأخيرا قامت بالاستحواذ على مطار القامشلي المدني. وتوجهت روسيا حديثا إلى الاستثمار بمقاتلي ميليشيات النظام ومقاتلي المصالحات من خلال الزج بهم إلى جانب الشركات الأمنية الروسية التي تقاتل في ليبيا إلى جانب قوات اللواء خليفة حفتر، مقابل مبلغ 1000 دولار أمريكي. ومن غير المستبعد أيضا نقل آخرين إلى مناطق أخرى في حال كان للشركات الأمنية الروسية مصلحة فيها.
وانعكس استحقاق فواتير القتال الروسية على العلاقة داخل بنية النظام السوري، فالضغط الروسي على الأسد من أجل تسديد فواتير التدخل الروسي المجدولة والمقدرة بنحو ثلاثة مليارات دولار، حان موعد دفع نصف مليار دولار منها. ومع انهيار الليرة السورية وشح الخزينة واشتداد الحبل الاقتصادي حول عنق بشار الأسد، بدأ بالضغط على أعمدة النظام جميعا لتوفير الأموال المستحقة. وطال الضغط ابن خاله رامي مخلوف الذي يعتبر الواجهة الاقتصادية للنظام السوري منذ مطلع القرن. وينبأ ظهور ابن الخال المقرب من العائلة في بث مصور مرتين عن سوء الأوضاع واشتداد أزمة النظام الذي يجعل مخلوف يخرج للعلن للمرة الأول ويبث تسجيلين في أقل من أسبوع. ورغم تهديد مخلوف المبطن إلا أنه يتوقع أن يخضع في نهاية الأمر إلى مطالب ابن عمته بشار الأسد. أو على الأقل أن يخضع لتسليم أموال شركاته في داخل سوريا. ويرجح كثيرون أنها جزء يسير من ثروة مخلوف الحقيقية التي قام بنقلها خارج سوريا. وهو لب الخلاف بين مخلوف والأسد. ورغم تركيز مخلوف على مخاطبة الفقراء الذين يقوم بمساعدتهم في مؤسساته الخيرية فإن من المستبعد أن ينجح في جر الموالين له من مقاتلي ميليشيا البستان أو الدفاع الوطني إلى الصدام مع النظام وأجهزته الأمنية أو العسكرية.
ظلت فكرة الانشقاق عن المؤسسة الرسمية لدى النظام بمثابة خيانة، استدعت مقتل صاحبها عدة مرات حتى لو لم يتجرأ على إعلان ذلك، مهما بلغ من القوة والوزن والثقل كما حصل مع وزير الداخلية الأسبق غازي كنعان. أما خروج رامي مخلوف وقلب الطاولة على “الدولة السورية” فهو بمثابة تحد خطير للأسد شخصياً. وهو ما لم يتقبله الأسد وسيجعل ابن خاله موضع انتقام شديد في أقرب وقت، إلا إذا راعى قضية الأموال المهربة إلى الخارج، واضطر إلى مساومته على استعادتها.
إضافة إلى التحرك الروسي على الصعيد العسكري، فقد نجحت بإحراز “نصر أولي” على الصعيد السياسي. فرضت مساره بخلاف الرغبة الدولية في الأمم المتحدة، وأنشأت مسار أستانا الموازي لمسار جنيف الذي ترعاه الأمم المتحدة، أدى إلى إخراج المعارضة من احضان دول أصدقاء الشعب السوري إلى تسليم تركيا الوكالة الوحيدة للمعارضة على المستويين السياسي والعسكري.
وساعد المسار روسيا على التفرد بكل منطقة من مناطق خفض التصعيد على حدة.
ولا تشير المعطيات إلى هشاشة في الموقف الروسي من النظام، أو إلى فكرة تخلي عنه، فروسيا بفضله وبفضل إيران أصبحت أبرز اللاعبين في شرق المتوسط إلى جانب إسرائيل. وتعتبر سوريا بمثابة القلعة المتقدمة التي انطلقت منها لكسب مزيد من السيطرة والوصول إلى مصادر النفط والغاز وفتح أسواق عسكرية كبيرة ولدتها الحرب في سوريا.
ورغم كل الشائعات حول الاستعداد الروسي للتخلي عن الأسد مقابل تفاهم استراتيجي مع أمريكا في المنطقة فهو أمر مبالغ فيه للغاية. فمن غير المفهوم لماذا ستضطر روسيا إلى التخلي عن الأسد بعد أن خرج منتصرا في حربه على شعبه وعلى المعارضة؟ فمن لم تبعده المدافع لن تبعده الورود.
إضافة إلى أن الأسد هو حاجة روسية تقدم المزيد من التنازلات عن موارد البلاد، ناهيك على أن فكرة خلق بديل بالنسبة للطائفة العلوية هو أمر في غاية الصعوبة، فالأسد حصر طائفته في زاوية ضيقة للغاية وأصبح مصيرها مرتبطا بمصيره بالكامل ولا يمكن فصلهما عن بعضهما بيسر.
________________________________________________________________________________
*نشر في القدس العربي اﻷحد 17 أيار/مايو 2020، للقراءة في المصدر اضغط هنا