جسر:متابعات:
كان النصف الأول من العام 2013 قد شهد ذروة تضخم النهج السلفي الجهادي بين صفوف فصائل الثورة السورية عموماً، وهو النهج الذي أفرز تخلي العديد من فصائل الجيش الحر عن علم الثورة السورية الذي كان علامة فارقة في معظم شعاراتها “لوغو”، وإضافة عدد كبير من هذه الفصائل كلمة “الإسلامي \ الإسلامية” إلى مسمياتها، وذلك نتيجة أسباب عدة منها الدعم المالي الأهلي الخارجي للحراك المسلح، والذي كانت تأتي نسبته الأكبر من دول الخليج العربي، حيث نشط هناك المشايخ والدعاة في جمع الأموال لدعم الثورة السورية، وكان هؤلاء بمعظمهم من أتباع النهج السلفي على اختلاف توجهاته (علمي \ حركي \ جهادي…)، والذين كانوا بطبيعة الحال يوصلون هذه الأموال للفصائل القريبة منهم نهجاً، كما كان لظروف الحرب دورها في تزايد المد الإسلامي عموماً لدى مقاتلين يواجهون الموت بشكل يومي، مع ما يقتضيه ذلك من أسئلة الآخرة والجنة والنار لديهم، والتي لزمها وجود مشايخ ودعاة يرافقونهم في جبهات القتال فيجيبون أسئلتهم، ويؤكدون سلامة مسعاهم مرغبيهم في الجنة وحاثيهم على البذل والثبات.
ولأن الثورة قد شهدت شحاً كبيراً في انضمام المشايخ التقليديين إليها (خريجي معاهد الشريعة السورية والذين تسمى مدرستهم بالمدرسة الشامية)، فقد سمح هذا للمهاجرين وأبناء التيار الجهادي بملء هذا الفراغ، مبشرين بنهجهم الذي بات المقاتلون يتبنونه تدريجياً، مع ما يعنيه هذا من إعلاء لشأن الفصائل الجهادية مقابل تلك التي بقيت تعرف عن نفسها كفصائل جيش حر محلية.
ثم جاء الإعلان عن فصيل داعش كحالة ذروة لهذا النهج، ليس فقط بنهجه الأكثر تطرفاً وراديكالية، بل أيضاً بتضخمه وتغوله على المناطق المحررة على اتساع رقعتها، حتى بات في كل قرية ومدينة ينافس -بل ربما يفوق- فصيل المنطقة الأساسي قوة ونفوذاً، وهذا ما دفع بعض الفصائل الكبرى في سوريا لتسريع اندماجها تحت مسمى “الجبهة الإسلامية”، بعد تكتلها سابقاً في ائتلافين رئيسيين هما الجبهة الإسلامية السورية وجبهة تحرير سوريا الإسلامية، ليضم التشكيل الجديد كلاً من (أحرار الشام – لواء التوحيد – جيش الإسلام – صقور الشام) إضافة إلى فصائل أخرى، ولتصبح “الجبهة الإسلامية” أضخم تشكيلات الثورة السورية، والمنافس والند الوحيد لتنظيم داعش على امتداد المناطق المحررة.
فيديو مرفق: بعنوان (بيان تشكيل الجبهة الإسلامية – تشرين الثاني 2013)
وطني/ إسلامي
جاء إعلان الجبهة الإسلامية ناقوس خطر بالنسبة لتنظيم داعش سرع معه خطواته التوسعية في المناطق المحررة، فالتنظيم -كحال معظم التشكيلات السلفية- ينظر إلى التشكيلات ذات النهج القريب على أنها المنافس الأخطر لها، كونها تتشارك جميعاً المشروعية الجهادية نفسها، التي يحصرها نهج السلفية الجهادية في التشكيلات المتبنية له خطاباً وبنية، لذلك كانت جبهة النصرة أول ما ركز عليه تنظيم داعش بداية تأسيسه حتى رجحت الكفة له في الشمال السوري، ثم وضع نصب عينيه حركة أحرار الشام التي كانت تتبنى خطاب السلفية الجهادية آنذاك أيضاً، كما كانت تفعل بعض الفصائل المنضوية إلى “الجبهة الإسلامية” بشكل جزئي.
والحقيقة أن الثنائية التي يتواصل تصنيف الحراك الثوري المسلح فيها بين تشكيلات وطنية تحت مسمى “الجيش الحر”، وتشكيلات إسلامية تضم الفصائل ذات النهج السلفي بشكل خاص غير دقيقة تماماً.
فلواء التوحيد مثلاً والمعروف بانتمائه للجيش السوري الحر، يعتبر أكبر تشكيلات “الجبهة الإسلامية” عدداً، وهو إلى ذلك يحمل هوية إسلامية واضحة لكنها بعيدة عن المنهج السلفي، وكذلك معظم فصائل الجيش السوري الحر على امتداد سوريا، فهويتها الإسلامية واضحة في مسمياتها وخطابها وحتى وجود محكمة شرعية ضمنها يتقاضى إليها الفصيل، فضلاً عن منصب الشرعي الثابت في معظمها، لذلك يمكن القول إن صفة -أو تصنيف- إسلامي لا يمكن نزعه عنها، وحصره في التشكيلات السلفية، بينما تتبنى التشكيلات التي تصنف عادة “إسلامية” منهجاً سلفياً واضحاً، سواء كان سلفياً علمياً كمنهج “جيش الإسلام”، أو سلفياً جهادياً كمنهج “حركة أحرار الشام”، وهذه المناهج السلفية رغم تقاربها ظاهرياً، إلا أن كل منها يعتبر صاحب المنهج الآخر أشد عداءً له من فصائل الجيش الحر غير المتبنية لمنهج.
لكن حالة العداء هذه تم التحامل عليها مع ظهور تنظيم داعش الذي بات خطراً وجودياً -وليس فكرياً فقط- يهددهم جميعاً، دافعاً تشكيلاً مثل حركة أحرار الشام لمراجعات فكرية طويلة أدت ببعض قادتها لاحقاً لاعتذار علني عن “السلفية الجهادية”، كما دفعت هذه التشكيلات للتكاتف كحالة إسلامية معتدلة نسبياً وجامعة في مواجهة تنظيم داعش ضمن صفوف “الجبهة الإسلامية”.
جيش المجاهدين
أيضاً شكل تقارب التشكيلات السلفية والقريبة منها واندماجها ضمن ائتلافي (الجبهة الإسلامية السورية وجبهة تحرير سوريا الإسلامية) رد فعل لدى فصائل الجيش الحر الصغيرة، والتي لم يجاوز أكثرها الحالة المناطقية، فقد كان هذا التقارب يعني مزيداً من الضمور لحالة الجيش الحر على حساب الحالة السلفية الإسلامية ضمن الصفوف المسلحة للثورة السورية، وهو ما دفع عدداً من تشكيلات الجيش الحر في حلب وريفها لبدء اجتماعات تنسيقية في النصف الثاني من عام 2013، ترتيباً لاندماج بينها يؤهلها لتشكيل كتلة وازنة تعيد للجيش الحر حضوره.
كانت “الفرقة 19” المشكلة من أبناء ريف حلب الغربي على رأس هذه التشكيلات، وقد ضمت الفرقة عدداً من الفصائل أبرزها (لواء الأنصار – لواء أمجاد الإسلام)، وتأتي أهمية الفرقة من كونها قد تمكنت خلال معارك “المغيرات صبحاً” من تحرير مناطق واسعة على أبواب مدينة حلب من جهة الغرب أهمها خان العسل في يوليو \ تموز عام 2013، كما شاركت بفاعلية ضمن معارك “العاديات ضبحاً ورص الصفوف” في ريف حلب الجنوبي، والتي كان أهم إنجازاتها بناء تجربة قتالية عملية بينها وبين مجموعات الجيش الحر المشكلة من أبناء وقاطني مدينة حلب ضمن “تجمع فاستقم كما أمرت” بشكل أساسي، حيث ستكون التجربة هذه العمود الفقري الذي يبنى عليه “جيش المجاهدين”، كما ضمت الاجتماعات كتائب نور الدين الزنكي ذات التجربة الثرية في القتال بين ريف حلب الغربي الأدنى (القسم الأقرب لشمال حلب) وبين منطقة تواجد تجمع فاستقم ضمن الأحياء المحررة من مدينة حلب، الأمر الذي سمح لها بلعب دور مهم كحلقة وصل بين الريف والمدينة.
شيئاَ فشيئاً تحولت حالة التوتر بين كل التشكيلات العسكرية في المناطق المحررة من جهة، وبين تنظيم داعش من جهة أخرى إلى حالة حرب قادمة لا محالة، ليأتي تحريك التنظيم أرتاله باتجاه “الفوج 46” الاستراتيجي في ريف حلب الغربي، والذي يسمح لمن يسيطر عليه بالتحكم في منطقة واسعة ومراقبة الحركة فيها.
ليقوم قادة فصائل الجيش الحر المجتمعين في مدينة الريحانية التركية للنقاش حول خطوات الاندماج التي لم يتمكنوا طوال أشهر خلت من حلها، بإعلان اندماجهم سوياً باسم “جيش المجاهدين”، ولتبدأ معركة تطهير الشمال من تنظيم داعش.