جدد قادة في “هيئة تحرير الشام” رفضهم حلّ “الهيئة”، وذلك رداً على الدعوات التي تجددت في أوساط المعارضة السورية مؤخراً، والتي اعتبرت أن حل “الهيئة” يمكن أن يشكل خطوة على طريق سحب الذرائع التي تستخدمها موسكو لتبرير الهجمات المتتالية التي تشنها مع قوات النظام ضد مناطق خفض التصعيد في الشمال السوري.
ورغم أن دعوات حلّ “الهيئة” ليست جديدة، ولا تعتبر واقعية من وجهة نظر الكثيرين ممن يرون أنه ليس هناك ما يمكن أن يجبر “تحرير الشام” على حلّ نفسها، إلا أن البعض أكد على أن قيادة “الهيئة” دخلت بالفعل مفاوضات مع قادة في الفصائل الأخرى بهذا الخصوص، وأنه ربما تكون الاستجابة من قبل “الهيئة” مختلفة هذه المرة، بالنظر إلى الموقف العسكري الصعب للمعارضة في الشمال الغربي، ولوجود رغبة تركية قوية بتغيير موقف “تحرير الشام”، وحثها على الاندماج مع قوى المعارضة غير المصنفة على قوائم الإرهاب.
قادة “هيئة تحرير الشام” الذين تصدوا للحديث عن هذا الموضوع، لم يتطرقوا إلى أي مفاوضات، واكتفوا بالإشارة إلى عدم القبول بطرح حل “تحرير الشام” من قريب أو بعيد، فيما جدد البعض الآخر الدعوة لبقية الفصائل إلى الالتحاق بـ”الهيئة”.
الشرعي العام لـ”هيئة تحرير الشام” مظهر الويس، وتحت عنوان “هل مشكلة روسيا مع الهيئة؟”، ردّ على الدعوة المتجددة لحل “الهيئة” معتبراً أنها دعوة “سخيفة” وأنها “تأتي رضوخاً وانسجاماً مع مطالب ومخططات المحتل الروسي”. وأضاف: “المتابع يعلم جيداً أن الهدف هو الثورة وكل من يحمل السلاح، بل كل من يحمل فكر الثورة حتى لو كان مدنياً، والبصيرون بالسياسة يعلمون هذا جيداً، ويعلمون أن طرحاً كهذا هو أقرب للترهات.. ولو لم تكن الهيئة موجودة لفعل العدو نفس الشئ مع غيرها”.
وعلى المنوال نفسه نسج القيادي العراقي في “تحرير الشام” أبو ماريا العراقي، ولكن بلهجة أشد قسوة، حيث وصف الداعين لحل “الهيئة” بـ”الحمقى وأبواق النظام”، مضيفاً أن هناك “من يحاولون أن يجعلوا من الهيئة سبب ما يجري من قتل وقصف”، لكن “هؤلاء أعمى الحقد بصيرتهم، وعليهم أن يعتبروا بما حصل في الغوطة وريف حمص الشمالي ودرعا، فلم تكن الهيئة هي التي تسيطر على الأرض، ولم يكن هناك وجود لحكومة الإنقاذ”.
وتتخذ روسيا من وجود جماعات مصنفة على قوائم الإرهاب في شمال سوريا ذريعة لشنها هجمات متتالية على مناطق خفض التصعيد في ريفي حماة وإدلب، وتقول إن تركيا فشلت بايجاد حل لنشاط هذه الجماعات، وعلى رأسها “هيئة تحرير الشام”.
بدوره ذهب المصري أبو الفتح الفرغلي، إلى أبعد من مجرد رفض الحديث عن حل “الهيئة”، وحث الجميع على العمل تحت قيادتها، معتبراً أن زعيمها أبو محمد الجولاني هو “أفضل القادة”.
الفرغلي في منشور طويل في “تليغرام”، قال: “لم أر في قادة الجهاد الشامي من هو أفضل من أبي محمد الجولاني في حسن القيادة والإدارة والحرص على وحدة الصف ورجحان العقل وسداد الرأي”.
لكن مواطنه أبو شعيب المصري، الشرعي السابق في “هيئة تحرير الشام” شن هجوماً على الجولاني ذاته، وحمله مسؤولية تردي الوضع العسكري، داعياً إياه للاستقالة.
وتساءل المصري: “هل سقوط المناطق المحررة واحدة وراء الأخرى أعظم من تنحي الزعيم؟”، وأضاف: “جل الشخصيات والفصائل التي انضمت للهيئة سابقاً خرجت منها بعدما حاولت الإصلاح، لكنها أيقنت أنه لا فائدة من هذا الاستبداد”.
وإذا كان الأخير يكتفي بانتقاد الجولاني ويتجنب الدعوة إلى حل “هيئة تحرير الشام”، فإن الكويتي علي العرجاني، المعروف بانتقاده الحاد لـ”الهيئة” وزعيمها، جدد موقفه بتحميل “تحرير الشام” المسؤولية بشكل كامل عن الخسارات المتلاحقة التي لحقت بالمعارضة في المنطقة، مؤكداً أن تفكيك “الهيئة” لمعظم الفصائل وإضعاف من تبقى منها، كان ولا يزال السبب الأساسي في الموقف المتردي للمعارضة عسكرياً.
العرجاني وجه رسالة إلى قائد “هيئة تحرير الشام” ألمح فيها إلى محاولة الأخير التفاوض مع تركيا لإيجاد مخارج، وقال: “فتح علاقات الإصلاح مع الثورة والثوار خير للجولاني من فتح معابر وعلاقات مع الدول، فالمناطق تتساقط، والنظام يتقدم، وستسقط معابرك وحكومتك ومصيرك مظلم إن لم تتدارك الوضع”.
فتح قنوات تواصل مباشر، وربما إقامة علاقات رسمية مع تركيا، لطالما كان هدفاً سعت له “هيئة تحرير الشام” على الرغم من تصنيف أنقرة لها في لوائح الإرهاب، وتكفلها بإيجاد حلّ لـ”الهيئة” وبقية الجماعات الجهادية في الشمال، حسبما ينص الاتفاق بين تركيا وروسيا في اتفاق سوتشي.
لكن قيادة “الهيئة” ظلت على الدوام تعتقد بأن تركيا مضطرة للتعامل معها في النهاية، وأن أنقرة لن تستطيع في ظل هيمنة “تحرير الشام” على المنطقة عسكرياً وإدارياً، فرض إرادتها بمعزل عن إرادة “الهيئة” التي يمكن في الوقت ذاته أن تبدي ما يكفي من المرونة والبراغماتية لجعل تركيا تعدل عن خيار التخلص منها بشكل نهائي.
وفي وقت سابق، دخلت “الهيئة” في مفاوضات مع بقية الفصائل العاملة في ريفي حماة وإدلب من أجل تشكيل تجمع عسكري يشبه تجمع “جيش الفتح”، إلا أن المفاوضات سرعان من انتهت بالفشل. بينما رفضت “تحرير الشام” خلال العامين الماضيين أكثر من مسعى من أجل حل “حكومة الانقاذ” التابعة لها، والسماح لـ”الحكومة المؤقتة” بالعمل في المناطق الخاضعة لسيطرتها. وهو الأمر الذي قطع الطريق على العمل لايجاد صيغة ما لدمج “تحرير الشام” ضمن “الجيش الوطني” الذي يضم فصائل المعارضة المدعومة من تركيا في شمال حلب.
ولا يعتبر العامل الايديولوجي السبب الوحيد الذي يبقي “الهيئة” بعيدة عن فكرة الانضمام إلى “الجيش الوطني”، على الرغم من أنه العامل الأهم، بل أن التاريخ المرير الذي يجمع “تحرير الشام” مع فصائل “الجيش” من ناحية، ومن ناحية ثانية، وجود مجموعات جهادية ناشطة في مناطق “الهيئة”، بعضها يكفر هذه الفصائل ويرفض أي شكل من أشكال التعامل معها، كلها أسباب إضافية جعلت باستمرار هذا الخيار غير ممكن.
في ظل هذا الواقع المعقد، تجد “هيئة تحرير الشام” نفسها في موقف حرج. إلا أن حراجة هذا الموقف يمكن دائماً القفز عليها بالتأكيد على وحشية الخصم وعدم تفريقه بين أي فصيل وآخر، والتأكيد على أن هدف روسيا هو القضاء على جميع قوى الثورة وإعادة السيطرة بشكل كامل للنظام على الأرض، خاصة مع فشل الحليف التركي في وضع حد لتجاوزات النظام وحلفائه. في الوقت الذي يرى فيه آخرون أنه، وعلى الرغم من صحة هذه المعطيات، إلا أن على قوى المعارضة أن تساعد أنقرة في معالجة ملف الفصائل المصنفة على قوائم الإرهاب، من أجل منحها مرونة وقدرة أكبر على التحرك. ويعتقد هؤلاء أن الوقت ما يزال متاحاً أمام “هيئة تحرير الشام” للعب دور إيجابي على هذا الصعيد، والتفكير بكل الخيارات مهما كانت مؤلمة.
المدن ٣ أيلول/ سبتمبر ٢٠١٩