جسر:مقالات:
بات واضحا أن تركيا وروسيا تلعبان آخر أوراقهما في إدلب، قبيل التوصل إلى اتفاقية شاملة بينهما، تتضمن وقفا لإطلاق النار وتهدئة مستدامة، بعد التصعيد الإعلامي الأخير وخاصة من الجانب الروسي، وارتفاع وتيرة خروقات النظام لاتفاقيات التهدئة، بالقصف المتواصل للقرى والبلدات بمنطقة جبل الزاوية، ومحاولات الاقتحام من محاور أخرى، وكلها كانت تفسر منذ الخامس من آذار/مارس الماضي، تاريخ الاتفاق الأخيرة بين الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، على أنها رسائل من قبل روسيا على هشاشة الاتفاق وإمكانية خرقه والتصعيد بأي وقت، فضلا عن تذبذب الموقف الروسي المستمر، الذي يغيب ويحضر ويصرح بشكل أحادي ويحدد مواعيد الاجتماعات دون استشارة نظيره التركي، حتى إنه يوقف الدوريات المشتركة بشكل أحادي، في رسائل لنظيره التركي، للضغط عليه عشية اقتراب أي مفاوضات كبرى بين الجانبين، رغم عدم تحديد الموعد الجديد بعد، خاصة أن الإنهاك بات ينال منهما، وما زيارة الوفد الروسي الرفيع مؤخرا إلى دمشق إلا لتثبيت النقاط ووقف الحرب، وبدء المرحلة السياسية التي قد تطيح بنهايتها برأس النظام بشار الأسد.
روسيا سربت للمرة الأولى مضمون المباحثات التي تجري حول إدلب مع الجانب التركي للإعلام، حيث إن مطالب سحب نقاط المراقبة من حدود سوتشي هي مطالب متكررة بشكل دائم من قبلها في كل اجتماع تقني يجمع الوفدين، بحجة انتفاء مغزى عمل نقاط المراقبة، وبالتالي لا داعي لوجودها، وتركيا كانت تتمسك بهذه النقاط من أجل المحافظة على حدود سوتشي، وليكون لها دور في عودة المهجرين، كما أن تسريب روسيا للمطالب التركية بتسليمها مدينتي تل رفعت ومنبج، باتت ترسم حدود الصفقة المقبلة بين الجانبين في الاتفاق المقبل المنتظر، ليكون الحديث عن هذه الحدود أمام المفاوضات المقبلة، خاصة أن حاجز المناورة الروسية بات ضيقا مؤخرا، وعلى العكس من ذلك فإن أنقرة زادت من نقاط قوتها في المنطقة، عبر تقوية يدها عسكريا في الميدان، وسياسيا عبر التطورات السياسية التي شهدتها الأيام الأخيرة.
تحصين تركيا لموقعها جاء بعد وضوح الرؤية الميدانية لها، وعدم إمكانية الوثوق بالمواقف الروسية التي تخل بتعهداتها رغم الاتفاقيات الموقعة، فأرسلت تعزيزات عسكرية كبيرة باتت معها العملية العسكرية غير ممكنة من قبل النظام وروسيا وإيران وجعلتها محدودة بشكل كبير، وبالتالي وضع هذا خيارات أمام تركيا تحكم رسم وتنفيذ الاتفاقيات المقبلة، ومن الواضح والمؤكد أنه مطلوب من تركيا فتح الطريق الدولي حلب- اللاذقية المعروف بـ”إم 4″، وهذا هدف تركي ومطلب روسي ملح، وآلية ذلك هي التي ستتحدد في حدود الصفقة المقبلة، كما أن تركيا استطاعت بنسبة كبيرة فصل الملف الليبي عن الملف السوري، عبر إلغاء فكرة مواصلة العمليات العسكرية لقوات حكومة الوفاق على منطقتي سرت والجفرة، فلم يعد ممكنا للجانب الروسي الربط بين الملفين، كذلك تركيا تمكنت أخيرا من فتح قنوات الحوار مع الاتحاد الأوروبي والدول التي شكلت معها أزمة في منطقة شرق حوض البحر المتوسط، وهي اليونان وفرنسا، وإجراء محادثات مستقبلية مع هذه الدول، وهو ما منع عزلتها، من خلال هذا الحوار الذي لا يعرف متى نهايته، وكانت روسيا قد حاولت استغلال هذه الثغرات في ممارسة مزيد من الضغوط على الجانب التركي لتحقيق المكاسب الأكبر في الاتفاقيات المستقبلية، مستفيدة من الأوضاع الدولية والسياسية، فضلا عن مرحلة الانتخابات الأميركية التي تجعل من واشنطن منشغلة بالوضع الداخلي على حساب السياسة الخارجية.
كل ما سبق لا يمكن البناء عليه للحديث عن هدوء مقبل طويل، وقد يكون الهدوء الذي يسبق عاصفة الاتفاق، حيث جرت العادة للتصعيد الميداني وتثبيت التوافقات لاحقا، وهو ما يعني أن أي تصعيد في المنطقة قد يكون بناء على توافقات يتم الترتيب لها، من أجل رسم حدود السيطرة الجديدة، مع التأكيد أن تركيا رسمت الخط الأحمر في إدلب لروسيا، وتركت الباب مفتوحا لحصول تفاهمات على الطريق الدولي، وتعتبر جسر الشغور ومحيطها والبلدات المهمة كلها خطا أحمر، وهذا الخط مرسوم بالفعل عسكريا على الميدان، وروسيا تدرك ذلك، وبناء على هذا باتت أنقرة تمتلك مساحة
أفضل للمناورة، وخيارات أكثر لتحقيق التوافق الذي قد يفضي إلى وضع الحرب أوزارها بإدلب، إيذانا بالانتقال للمراحل اللاحقة في تأسيس المنطقة الآمنة التي تريدها تركيا، من أجل استقرار المدنيين فيها، ومنع موجات لجوء جديدة، والعمل على فصل فصائل المعارضة عن الفصائل والعناصر الراديكالية، والتمهيد لعودة المهجرين، والملف الأخير قد يكون معقدا وطويلا، ومن ثم بدء العملية السياسية التي قد تتطلب أيضا فترة زمنية ليست بالقليلة للوصول إلى الحل السياسي النهائي والشامل.
وبناء على أي تصعيد قد يحصل في المنطقة فإن شكل الاتفاق المقبل وفق المصادر التركية قد يكون على شكل اتفاق فتح للطريق الدولي إم 4، مقابل سيطرة تركيا على مدينتي تل رفعت ومنبج، فروسيا تطلب بأن يكون لديها وجود جنوب الطريق الدولي، فإما يكون هذا الوجود مباشرا، أو عبر نقاط مراقبة، ويلحق ذلك فتح الطريق أمام الحركة التجارية والمدنية مع استمرار الدوريات المشتركة، وهو أقصى ما يمكن لتركيا فعله، وقد يشمل ذلك أيضا سحب نقاط المراقبة المحاصرة في ريف إدلب الجنوبي، وريف حماة الشمالي، وهو ما يعني تبادل السيطرة والمساحات بين الطرفين، ولكن الفرق هنا سيكون سيطرة الجانب الروسي على أراضي وصولا للطريق الدولي عبر الوجود المباشر أو بنقاط المراقبة، مقابل سيطرة تركيا على بلدات تعتبر استراتيجية، وإن صح ما يتم تداوله عبر المصادر التركية، فإن هذا سيتم عبر عملية عسكرية محدودة أو بشكل مفاجئ، وهذا الحل قد لا يرضي استراتيجية البلدين، ولكنهما وكما ذكر في البداية، باتا يعانيان أكثر من طاقتهما وهما بحاجة للحل، وتحقق هذه الصفقة الاتفاقية، سيرخي الاستقرار بإدلب لفترة طويلة، عكس الاتفاقات السابقة، وربما هنا يفهم كلام وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، أن العمليات العسكرية انتهت في سوريا بين النظام والمعارضة، وبقيت بعض جيوب مواجهات في إدلب وشرق البلاد، وهذه الجيوب هي مجال المناورة بين الطرفين لرسم الاتفاقيات النهائية.
ومهما تكن الاتفاقيات فإنها من المؤكد ستمهد لتأسيس الاستقرار في إدلب، ويرتاح المدنيون هناك من هدير الطائرات وأزيز قصفها، ومن سماع صوت المدافع، وعندها ستفتح إدلب صفحة جديدة من أجل إتمام الاستحقاقات المقبلة، وتتحول إلى منطقة آمنة تنضم لهما تل رفعت ومنبج، لتشكل مع مناطق درع الفرات وغصن الزيتون منطقة آمنة من وجود الأسد وقواته، يرسم فيها السوريون لوحة الحرية المنشودة التي خرجوا لأجلها قبل نحو عشر سنوات.