جسر: ثقافة:
يُسجّل للكاتب والديبلوماسي الهولندي المحترم السيد نيكولا فان دام أنه أكثر من كتب بجرأة وتجرّد عن طبيعة النظام السوري. فقد حام الكثيرون قبله وبعده حول جوهر المشكلة في تاريخ سوريا المعاصر لكنهم فشلوا في فهم أخطر الأمراض التي تعاني منها سوريا منذ الستينيات وحتى يومنا هذا. هذه الأمراض العضال هي التي شخّصها السيد فان دام بذكاءٍ وشخصية قوية تطرح الفرضيات وتبرهن عليها دون اللجوء للمداراة والتقية ومن دون التهرب من المسؤولية الفكرية والأخلاقية في النطق بالنتائج والملابسات التي يتكشف عنها البحث.
الطائفية والمناطقية والعشائرية هي أخطر أمراض تعاني منها سوريا. سوريا ولدت دولة مريضة بعد الاستقلال. جيشها مركب من العلويين والدروز بشكل رئيسي, ومدرب على قمع انتفاضات الشعب في وجه مصالح الاحتلال, ولاحقاً – كما هو حاصل اليوم – تدمير سوريا على رؤوس أهلها للحفاظ على امتيازات طغمة صغيرة حاكمة.
وبسبب طبيعة الجيش الذي تركته وراءها فرنسا, صار النظام السياسي الذي ولد في سوريا ابتداءً من الستينيات طائفي علوي. كان يمكن أن يكون النظام طائفي درزي, لكن كما يشرح فان دام في كتابه (تدمير وطن) فإن إجرام المؤسس حافظ الأسد ورفاقه العلويين ضد الضباط الدروز في الجيش انتهى بالعلويين إلى استلام مفاصل الجيش منذ الستينيات مع طرد الضباط الدروز والحدّ من نفوذهم بشكل لا رجعة فيه. ثم وفي مرحلةٍ لاحقة ضيق حافظ الأسد الدائرة أكثر وأقصى علويين لا ينتمون للدائرة المحدودة للعائلة والمنطقة التي ينمتي إليهما. صار النظام انتقائياً داخل الطائفة, وعائلياً داخل المنطقة. صارت سورية مزرعة أو سجن كبير, ولم تعد وطناً أبداً.
وهنا يكمن المأخذ الأول على كتاب (تدمير وطن: الحرب الأهلية في سوريا) للسيد فان دام. فهل حقاً كان هناك وطناً دمرته الحرب الأخيرة؟ هل حصل السوريون على فرصةٍ لتتكون هويتهم المميزة كأمّة واحدة؟ أليست سوريا مزرعة لآل الأسد كما صورها السيد فان دام في كتابه الجديد وفي كتابه السابق (الصراع على السلطة في سوريا)؟ لماذا نلوم جيلاً من السوريين لم يخبر مفهوم الوطن ولا الدولة وقرر الخروج من المزرعة والهروب من السجن؟
ابتداءً من الفصل الثاني من الكتاب ينتقل الكاتب لسرد أحداث ما يسميه “الحرب الأهلية” الراهنة والتي لا يتردد في مناسبةٍ أخرى في وصفها بحرب دولية بالوكالة, وهو محق في كلا التوصيفين لو أنه لم يبخل بإبراز الجوانب الثورية للانتفاضة السورية ونزعة المنتفضين السوريين الأصيلة للحرية والغضب لأجل كرامتهم الإنسانية التي يهددها النظام.
يقرّ الكاتب منذ البداية بصعوبة تجنب الحرب في سوريا. “فالتحول من ديكتاتورية يسيطر عليها العلويون إلى ديمقراطية واسعة, يتطلب تفكيك أجهزة القمع الموجودة, وتخلي النظام عن الامتيازات والمناصب,” وهي أشياء ليس في وارد النظام القيام بها تحت أي ظرف لأنه ببساطة نظام طائفي لا يعبأ بمصلحة الوطن.
على مستوى تحليل الحرب السورية لم يأت الكتاب بجديد, وفشل في رصد أحداث خطيرة لعبت دوراً حاسماً في مآلات الحرب السورية مثل دور النظام في خلق الجماعات الإرهابية, وتسليم مدينة الرقة لتنظيم داعش, إضافة لانسحاب الجيش السوري من مدينة إدلب لصالح تنظيم القاعدة والجماعات المرتبطة به.
أما في موضوع المعارضة السورية, فقد تكلم الكاتب عن مؤسساتها في اسطنبول كما لو أنها معلقة في السماء أو جاءت من فراغ. نسي الكاتب أو تناسى قضية هيمنة جماعة الإخوان المسلمين على مؤسسات المعارضة وركوب أفراد من هذه الجماعة أمواج الدماء السورية بدعم من دول غربية استقدمتهم من منافيهم للّعب بمسار الثورة السورية ورسم النهايات المرغوبة لها. فهذه الجماعة الطائفية المقيتة لا تمثل تطلعات الشعب السوري المنتفض, ولم يفوضها أحد من أفراد هذا الشعب لتمثيله سياسياً, بل إنها فرضت نفسها على السوريين فرضاً من خلال التدخل الدولي السافر في الشأن السوري, وهو تدخل لم يخدم سوى النظام والإخوان المسلمين.
يؤخذ على الكاتب كثرة استشهاداته بمصادر لا تعتبر رصينة بالمعايير الأكاديمية. مثلاً, عند مناقشة موضوع إطلاق مجرمي تنظيم القاعدة من سجن صيدنايا, يورد الكاتب أسطورة غير قابلة للتصديق نقلها كاتب باسم مستعار من دمشق يُسمّى “إحساني”!!! تقول الأسطورة أن الشيخ أحمد الصياصنة من درعا هو الذي طلب من بشار الأسد إطلاق سراح السجناء فقام بشار بتلبية طلبه!
من دون قصد يبرّأ الكاتب نظام بشار من أخطر جريمة ارتكبها ضد الشعب السوري وهي الجريمةالمخطّط التي نفذها النظام عن سبق إصرار وترصد, وبوعي كامل لتحويل الثورة من انتفاضة شعبية من أجل الديمقراطية إلى حركة إرهابية يسهل سحقها بالقوة.
كما أن الكاتب استشهد كثيراً بكتاب “الجهاد السوري” لتشارلز ليستر, وهو كتاب يتناول الثورة السورية من منظور ضيق ويتخذ من مفهوم الجهاد مرتكزاً محورياً لدراسة صراع ليس له علاقة بالجهاد أساساً. والكاتب الذي تميز بنظرةٍ ثاقبة في الفصل الأول من الكتاب خانته حكمته في الفصل الثاني في أكثر من موضع. على سبيل المثال يرى الكاتب أن تحالف النظام السوري مع إيران وحزب الله لم يكن تحالفاً طائفياً بل استراتيجياً, ولعمري هذه النتيجة هي أسوأ ما ورد في الكتاب لأنها ببساطة تناقض بشكل صارخ الشرح الممتاز الذي قدمه السيد فان دام في الفصل الأول عن طائفية النظام السوري. كما أن هذا الزعم لا يصمد أمام النقد, فما دام الأمر ليس له علاقة بالطائفية لماذا لم يتحالف النظام مع السعودية أو باكستان أو مصر لقمع الانتفاضة السورية؟
ينتهي الكتاب بخلاصةٍ يقدم فيها الكاتب سيناريوهات محتملة لنهاية المأساة السورية, كاحتمال استمرار الحرب لأمد غير منظور, أو احتمال انتصار النظام … الخ من دون أن ينجح في أن يروي تعطش القارئ لفهم حقيقة ما جرى في سوريا خلال سنوات الحرب القاسية وخصوصاً خفايا التدخل الدولي السافر, والدعم المبطّن للنظام من عدة دول, وغض النظر عن نشاطات التنظيمات الإرهابية, وتعرّي الغرب من شعاراته الإنسانية وهو يشاهد المذبحة السورية المفتوحة دون أن يقوم بتحرّكٍ جدّي لإيقافها.