رأي- عبد الناصر العايد
أبلغ الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مسؤولي الخارجية والدفاع، إنه لا يريد جندياً أميركياً واحداً في سوريا عند انطلاق حملته الانتخابية مطلع العام المقبل، التي سيركز فيها على أنه وَعَدَ الأميركيين “بإعادة جنودنا من حرب أوباما وها أنا وفيت بوعدي”.
في أحد تبريراته لهذا الانسحاب، قال ترامب إننا في سوريا “نتخبط في مستنقع حروب سخيفة لا تنتهي، لا أحد يريدنا أن نبقى هناك سوى روسيا والصين”. لكن المتأمل لمكاسب موسكو من هذا الانسحاب سيكتشف أن ترامب، وهب موسكو تحديداً جائزة ذهبية، نظير تدخلها في الشأن السوري لأعوام.
قبل رحيله من سوريا، منح ترامب جائزة ترضية لتركيا هي مدينتي تل أبيض ورأس العين، وترك ما تبقى لروسيا، التي اخضعت الأكراد لهيمنتها مباشرة من دون طلقة واحدة. وبدأت روسيا نشر ما تبقى من قوات نظام الأسد على الحدود مع تركيا، لتحد من توغل الأخيرة، قبل السيطرة على شرق الفرات قطعة قطعة، بالتزامن مع الانسحاب الأميركي الممنهج عسكرياً، وصولاً إلى ديرالزور التي ستكون غالباً آخر منطقة يرحل عنها الأميركيون.
أولى الفوائد التي ستحصدها روسيا، بعد سيطرتها على الشرق السوري، ستكون اقتصادية، فشرق سوريا يضم ما لا يقل عن 70% من موارد سوريا الطبيعية، ما يمكن من تعويض بعض أكلاف “الاستثمار” الروسي في سوريا.
إلا أن حلول روسيا مكان أميركا في سوريا، وسيطرتها الكلية على الموقع الجيوسياسي السوري على الحدود مع العراق وتركيا والأردن ولبنان وإسرائيل، ستجعل منها لاعباً رئيسياً في شرق المتوسط. هذا عدا عن صفقات السلاح التي ستسعى دول المنطقة لابرامها مع روسيا، كسباً لودها، وتحاشياً لتنمرها بعدما أضحت جاراً جديداً لها، ما سيزيد من دائرة النفوذ الروسي، والقدرة على التدخل أكثر في النزاعات الدولية.
الاقتصاد السياسي هذا ليس كل الجائزة، ثمة رأس مال سياسي كبير وضع بوتين يده عليه بالسيطرة على المنطقة، فهو سيستحوذ من الآن فصاعداً على ورقة الجهاديين، سواء “داعش” شرقي سوريا، أو “القاعدة” في شمالها الغربي. سيساوم بوتين أوروبا، وربما واشنطن، على مئات الجهاديين القابعين في سجون “قسد” اليوم، أو الآخرين شبه السجناء في إدلب، أو حتى تلك الذئاب المنفردة المختبئة في الصحارى والقرى.
وعلى صلة بهذا الملف الذي يؤرق الغرب، سيكون لروسيا دور حماية أمن إسرائيل، مع ما يرافقه من العوائد المجزية على الصعيد الدولي.
إقليمياً، ستكون روسيا صاحبة الكلمة الفصل في الصراع العربي-الايراني. ومنذ تدخلها العسكري في سوريا نهاية العام 2015، طرحت روسيا نفسها على الجانب العربي بوصفها الطرف القادر على لجم التمدد الايراني، وضبط سلوك طهران التوسعي.
زيارة بوتين الأخيرة للملكة العربية السعودية، حملت للرياض عرضاً يضمن لها حصة العرب من سوريا، بدل أن تستأثر انقرة بتمثيل “العرب السنة”. ولانقرة أيضاً أصبح من البديهيات، ان موسكو وحدها من يستطيع أن ينقذها من كابوس الإقليم الكردي على خاصرتها الجنوبية. أما للأكراد، فروسيا ستكون الضامن الوحيد الموثوق، لعدم سحقهم في رحى الأتراك والعرب الناقمين عليهم والنظام، بعد اندفاعتهم غير المحسوبة التي ورطتهم بها واشنطن.
سيجرب الأكراد بكل تأكيد أن يتعلقوا بوهم السيطرة على الجزيرة السورية، وبيع مناطق العرب السنة لنظام الأسد وروسيا، للحصول على مكتسبات واسعة، مثل حكم ذاتي بصلاحيات كبيرة، لكن كل ذلك سينهار مع أول اختبار جدي. مناطق العرب وسكانها لن تكون مرتهنة لإرادة “الاتحاد الديموقراطي” السياسية بعد رفع الغطاء الاميركي عن “قسد”. وسيقبل “الاتحاد” عاجلاً أم آجلاً، بكونه شوكة صغيرة في شمال سوريا، تستخدم لنكء جراح انقرة بين الفينة والأخرى، وابتزازها.
اما اللاجئون والمعتقلون والمغيبون قسرياً، فهي ملفات تفوح منها رائحة لا تستسيغها موسكو اليوم، ويجب أن تبقى مغلقة، حتى انجاز المرحلة النهائية من خطة إعادة فرض نظام الأسد، في انتخابات العام 2021، والتي يمكن تبكيرها قليلاً، لاستباق أي مخاطر قد تنجم عن انتخاب رئيس أميركي جديد، قد يُغيّر دفة السياسة الاميركية.
المصدر: المدن/ ١٦ تشرين الأول ٢٠١٩