جسر: رأيكم:
منذ أن شارفت أحداث “الإخوان المسلمين” على الإنتهاء في سوريا بعد تدخل الجيش في قمعها بقسوة أول ثمانينات القرن العشرين، وبدأت السلطات أعمالها الأمنية (أي تصفية خصومها)، صار المرء لا يأمن على نفسه من القتل أو الاعتقال لمجرد الاشتباه بانتمائه هو أو أحد أقربائه لتلك الجماعة المحظورة، وذلك بفضل جهود المخبرين وكتاب التقارير الأمنية والكيدية ، حتى قيل أن الدولة تمكنت من جعل الأخ يشي بأخيه بلا عذاب ضمير، ليس هذا مصدر الخطر الوحيد فحسب، بل ظهرت بدعة الاعتقال والتعذيب وربما القتل (في ظل كتم المعلومات) بسبب خطأ “تشابه الأسماء”.
هذه البدعة تعني اعتقال الأبرياء من كل تهمة أو جرم، لأن أحد المطلوبين اسمه يشابه اسم أحدهم في الاسم الأول واللقب (اسم العائلة) أو الكنية، حتى مع اختلاف اسم المطلوب مع اسم البريء ببعض الحروف يعتبر من قبيل تشابه الأسماء، مثلاً اسم أحمد يتشابه مع حمد، و زهير مع زاهر، وعبدو مع عبيدو وهكذا.. وكنت سأقع ضحية هذا الخطأ الاستخباراتي الفظيع لولا لطف الله وحسن حظي.
حدث هذا مع بداية تحولي من سن المراهقة إلى الشباب، كنت راكباً باص (حافلة) النقل الداخلي لأذهب إلى مدرستي “ثانوية الشهداء” في أول حي الفردوس، أوقف الباص المتوجه من حي السكري إلى مركز مدينة حلب، حاجزٌ “للوحدات الخاصة”٭ قبل تقاطع سكة الحديد مع الطريق في منطقة “جسر الحج”، و صعد عسكري مدجج بالسلاح الخفيف والرصاص إلى داخل الباص، و طلب من الركاب أن يخرجوا بطاقات الهوية الشخصية للتفتيش، وصار يتفحصها مع التمعن في الوجوه، وكل من يشتبه في اسمه أو شكله يطلب منه النزول من الباص ليتم حبسه أو ضربه أو نتف لحيته، و لما جاء دوري و قرأ اسمي (جهاد الدين رمضان)، ورأى ذقني كوساية (أي بلا شعر)، سألني مستجوباً إياي: كم عملية إرهابية شاركتَ فيها مع الأخوان؟
كنت سأقول له عملية تبولي في ثيابي من خوفي منك، لكن تحكمت في نفسي وامتنعت من التبول أو التقول بما أسلفت، ابتسمت في وجه العسكري وقلت له: هل هذا وجه إرهابي يا سيدي؟
تجهم الرجل و أخرج “قداحة” من جيبه و قدحها و قرب نارها من وجهي، وقال: عم أسألك كم عملية شاركت فيها مع عصابة الأخوان الشياطين؟
قلت مذعوراً: و الله لم أشارك بشيء، وأنا ضد تدمير مؤسسات الوطن واغتيال الناس (و مازال هذا موقفي حتى اللحظة).
قرب العسكري نار القداحة من وجهي أكثر فأكثر، حتى أحرقت بشرة وجنتي، وسالف شعري و صيوان أذني، قال بغيظ وحنق: لماذا أسمك جهاد الدين رمضان إذن إن لم تكن من تنظيم الأخوان؟
قلت له بسرعة خوفاً من أن تلتهمني نار القداحة والحقد: يا سيدي أطلق أبي علي اسم “جهاد” لأنه كان يجاهد في تأمين لقمة العيش، وكلمة “الدين” المضافة للإسم “سجع” اختاره أبي في كل أسماء اخوتي، و ذكرت له: ضياء الدين، علاء الدين، صلاح الدين، عماد الدين، زبيدة الدين، خولة الدي…
ها هنا أبعد القداحة وأطفأ نارها و نار حقده، وقاطعني ضاحكاً بقوله: بس حاج و لك يا كرّ، البنات ما بصير ينضاف لاسمهم كلمة “الدين” متل أسماء الجحاش اخوتك الشباب، روح انقلع من وجهي وخليك في الباص، ثم ناولني هويتي وانصرف عني بسلام، ولم أشعر بالسلام إلا بعد نزوله من الباص وقوله للسائق بإيعاز عسكري : إلى الأمام سِرْ.
بدا للنظام الحاكم في عهد اﻷسد الأب، أن الدولة تعافت من جروح أحداث الأخوان المسلمين في آخر القرن العشرين، و كم طرِبَ وسُرَّ عندما سمع بعض الفنانين الشعبيين يغنون في الأعراس والأفراح هذا الموّال:
عديت نجوم السما
باقي منهم تلات نجمات
وحدة لحافظ الأسد
وتنتين للوحدات
لكن في الحقيقة جراح الأحداث لم تُشفَ في النفوس حتى في ظل حكم اﻷسد الابن، فما من بيت أو عائلة إلا وفيها جرح لم يندمل بعد، كثير من الأبرياء لم يبقَ لهم أثر، ولم يُعرف مصيرهم إلى اليوم، راح قسم كبير من خيرة الشباب في معمعة الأحداث بسبب تقرير كيدي، أو لقراءة جريدة “النذير”؛ فدخل السجن بلا إنذار و نذير، دخله وهو مراهق صغير، وخرج منه وهو مكتمل الرجولة والآلام، مثل صديقي محمد أبي سلام، و منهم من دخل السجن لتطابق الأسماء أو تشابهها أو كرهينة بدلاً عن المطلوب الهارب من الديار، و الحظوظ في بلدي فقوس وخيار.. وبقيت جراح الروح متقدة في النفوس كجمرٍ تحت الرماد.
صحيح أن النظام الحاكم القديم خفف من حالات الاعتقال بسبب تشابه الأسماء، بعد مقارنة اسم الأب والأم، ومحل وتاريخ الميلاد، ومكان و رقم التسجيل في قيد النفوس (سجلات الأحوال المدنية)، لكنها عادت للظهور على مسرح الأحداث في عهد النظام الجديد بعد ربيع ٢٠١١ بكثرة، ويُقال على سبيل الطرفة حول تشابه الأسماء، أن تسمية نوع من الصواريخ المحلية الصنع بصاروخ “فيل” جاءت من نكتة قديمة انتشرت في عهد الأسد الأب؛ إذ قال “الفيل يطير”، فأكد ذلك الابن بجعل الفيل يطير بعيداً حتى يقصف آخر شبر من الأرض السورية، ولا يصل إلى الجارة إسرائيل.
٭“الوحدات الخاصة” هي التسمية الشائعة في تلك اﻷيام لما يعرف اليوم باسم “القوات الخاصة”، وهي فرقة من عناصر الجيش المدربين للمهمات القتالية الصعبة، و هي التي تولت بسط سيطرة الدولة على الأرض السورية في أول الثمانينات مع قوات سرايا الدفاع المشهورة ببطشها والتي قادها رفعت شقيق حافظ. والموال المذكور في مدح الوحدات، كان يتردد كثيراً على حناجر الطرب الحلبي الشعبي في الليالي الملاح.