“تركيا ربحت في الميدان وربحت أمام الطاولة”، استنتاج مبكر جدا تروّجه أقلام في تركيا محسوبة على حزب العدالة والتنمية.
هل تنجح أنقرة في إقناع موسكو بتغيير نظرتها إلى خطة المنطقة الآمنة التي تريدها على طول الحدود المشتركة مع سورية؟ ما الذي سيعنيه قبول موسكو بخطة التحرّك التركية وأهدافها في شمال سورية؟ وما هو الثمن الذي ستطالب به موسكو مقابل إعطاء أنقرة ما تريده هناك؟ الحوار المباشر والعلني مع دمشق، ثم الدعوة إلى انتشار قوات النظام في مدن حدودية عديدة مثلا؟ تريدها أنقرة استراحة المحارب على جبهات رأس العين، قبل مواصلة عملية “نبع السلام” على ضفتي الفرات وداخل العمق السوري. ولكن متابعة نتائج الاتفاق التركي الأميركي على الأرض، ومعرفة أهداف الخطوة المقبلة التي ستقدم عليها واشنطن التي تعد لسحب مئات من جنودها من سورية، وما الذي سيحمله هذا القرار معه من ارتداداتٍ سياسية وأمنية على الأرض في الداخل السوري ضرورة ملحّة أيضا.
مؤشرات كثيرة على وجود تفاهماتٍ أميركية روسية بعيدة عن الأعين، هدفها إدارة ملف الأزمة السورية على حساب أنقرة وطهران: انسحاب واشنطن من المشهد السوري عسكريا وميدانيا يعني تراجع حظوظها السياسية في فرض ما تقوله وتريده؟ فهل قرّرت واشنطن تسليم ملف قوات سوريا الديمقراطية (قسد) إلى موسكو في إطار صفقة تفاهماتٍ على حساب تركيا وإيران؟
تفاوض أميركا نيابة عن “قسد”، وروسيا تفاوض نيابة عن النظام. تقول واشنطن إنها لن تتخلى عن حليفها الكردي، وموسكو تصر على فتح الطريق أمام النظام، لاسترداد سيطرته على كل الأراضي السورية. هنأ ترامب أنقرة على الاتفاق والتفاهمات، لكنه هنأ “قسد” وقياداتها كذلك على النتائج التي تم التوصل إليها. موسكو هي التي تقود الحوار بين النظام و”قسد”، وتستعد لإعلان النتائج قريبا، ألا يخدم ذلك كله مشروع التقارب الأميركي الروسي؟
قد تنسحب واشنطن من سورية، لكنها ستترك خلفها أكثر من أزمة عالقة، لا يمكن معالجتها من دون التواصل والتنسيق معها. هناك ملف تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) المتفاعل، والحديث عن جهوزية مجموعات في التنظيم للعودة إلى التحرّك عند أول إشارة تُعطى لهم. وهناك موضوع “قسد” وحصته السياسية والدستورية التي تحميها وترعاها واشنطن. هي ستختار موسكو للاتفاق معها على كل هذه القضايا، طالما أنها تجد صعوبة في إقناع أنقرة، وطالما أنها ترفض أي وجود إيراني في سورية.
ما الذي سيجري إذا ما أعلن النظام و”قسد” أنهما وصلا إلى خطة تفاهم برعاية روسية، وأن الهواجس التركية ستأخذ بالاعتبار شرط تراجع أنقرة عن خطة المنطقة الآمنة، وتسهيل انتشار قوات النظام في المدن الحدودية التي ستخليها “قسد”؟ أليس هو الخيار الأفضل بالنسبة لموسكو وواشنطن على السواء؟
هل سيقبل النظام بمواصلة تركيا عمليتها العسكرية بعد إمساكه ورقة “قسد”، والإعلان عن جهوزيته لملء الفراغ الميداني في المناطق التي ستخرج منها بطلب أميركي مباشر؟ ألا تعني خطوة من هذا النوع وجود التفاهمات الأميركية الروسية بشأنها؟ كانت موسكو، قبل عام واحد، تطالب واشنطن بسحب قواتها من سورية، وتركها تتولى الإشراف على الحل السياسي في البلاد. هل الانسحاب الأميركي بهذا الشكل الذي يفتح الطريق أمام قوات النظام للتقدم والانتشار على مرأى القوات التركية ومسمعها، من الممكن أن يحدث من دون تفاهمات أميركية روسية بشأنه؟
تتحدث أنقرة دائما عن أمنها القومي، وإبعاد التنظيمات الإرهابية عن حدودها. مع من ستتفاهم على ذلك؟ مع أميركا التي تحيل الملف رويدا رويدا على روسيا؟ أم مع روسيا التي تصر على فتح الطريق أمام تقدم قوات النظام وإعادة انتشاره في المناطق الحدودية؟ أم مع النظام الذي لم يكشف النقاب عن طبيعة التفاهمات التي أجراها مع مجموعات “قسد”، وهل تخلى عن اتهاماته لها بالانفصالية؟ أم مع قوى المعارضة السورية التي تنتظر ما هو أبعد من عملية “نبع السلام” وخطة المنطقة الآمنة، وتهديدات بعضهم في أنقرة بأن تقدم قوات النظام نحو المدن الحدودية هو بمثابة إعلان حرب على تركيا؟
قد تأخذ أنقرة ما تريده على خط رأس العين – تل أبيض، وبعد ذلك ما الذي ستفعله عسكريا وسياسيا؟ ما فتح الطريق أمام قوات النظام لتتقدّم في الشمال والشرق ليس الفراغ الجغرافي وحده، بل التفاهمات الأميركية الروسية المفاجئة، والتي قد تكون على حساب أنقرة بالدرجة الأولى. التصعيد الذي ينفذه النظام أخيرا، بدعم عسكري روسي، في إدلب وجوارها لا يمكن فصله عن محاولتهما تضييق الخناق على الخيارات التركية على ضفتي الفرات، ودفع تركيا إلى القبول بالخيار الصعب، كي لا تكون في مواجهة الخيار الأصعب.
قال الرئيس التركي، أردوغان، قبل أيام، عندما سئل عن احتمال تقدّم قوات النظام نحو منبج وعين العرب، إنها أرضهم في النهاية. هل يعني ذلك تخلي أنقرة عن مشروع المنطقة الآمنة وعمليتها العسكرية، إذا ما أعطاها النظام، بدعم روسي، ما تريده في شمال سورية لناحية إخراج “وحدات حماية الشعب” من المنطقة، وتسريع عملية التسويات السياسية في سورية؟ قد يكون ثمن خطوة التقريب بين دمشق و”قسد” إنهاء مشروع الإدارة الذاتية في شرق سورية وشمالها، ولكن ما يقلق أنقرة هو احتمال وجود تفاهم أميركي روسي على توفير الحماية لمجموعات “قوات سورية الديمقراطية” في العمق الجغرافي، وإبقائها ورقة ساخنة في المشهد السوري.
أمام إصرار تركيا على مواصلة عمليتها العسكرية بالتنسيق مع الجيش الوطني السوري قد يبرز التفاهم الأميركي الروسي المدعوم أوروبيا وعربيا على وضع خطة مضادة، تقوم ليس على وقف العملية التركية، بل إفشالها عبر الالتفاف عليها، سياسيا وعسكريا ودبلوماسيا. لذلك قد تتحول العملية العسكرية التركية إلى مصيدة أميركية روسية، وقد يتحول الاتفاق التركي الأميركي إلى “كابوس استراتيجي” إذا لم تتحرّك أنقرة لمعرفة حقيقة الأهداف الأميركية الروسية في سورية، على ضوء المستجدات المتلاحقة. وينبغي أن يتقدّم التحرّك التركي ما بعد لقاء أردوغان بوتين باتجاه الإجابة عن السؤال الذي ينتظره حلفاء أنقرة من السوريين: أيهما أفضل، منطقة آمنة تحتاج إلى تجاوز العقبات الأميركية والروسية والإقليمية أم تسريع ملف التسويات السياسية الذي قد يعطي أنقرة ما تريده، ويبدّد مخاوفها وهواجسها الحدودية؟
فاجأني مثقف سوري بقوله “نحن لا نخاف مشروع التقسيم في البلاد، بل خطر التشظي، وخطوات وضع اليد على خيارات الشعب السوري وقراراته”. الصفقة في العلن تركية أميركية، أو تركية روسية أو ثلاثية ربما. لكن الصفقة الأكبر قد تكون روسية أميركية على حساب الجميع. الرد المنتظر على كل هذا التنافس الإقليمي في سورية قد يأتي من السوريين أنفسهم. الإسراع في إعادة إنتاج ضرورات الحوار السوري السوري ومبرّراته.
طرفة يتناقلها الأتراك، نقلا عن أحد قدماء الدبلوماسية التركية المخضرمين، إحسان صبري شاغليانغيل: “إذا دعيت إلى حفل عشاء سياسي في إحدى عواصم الشرق الأوسط، ولم تجد اسمك على لائحة المدعوين، فهو حتما كتب على لائحة الطعام”.
المصدر: العربي الجديد