هارون ي. زيلين: معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى:
على عكس ما تحمله تصريحات الرئيس ترامب على مدى نصف العام الماضي، فإن تنظيم «الدولة الإسلامية» لم يُهزم بعد بالكامل. صحيح أن التنظيم ليس قريباً بتاتاً من القدرة التي كان عليها في عام 2015، ولكنه يعيد بناء قوته باطراد ويحاول إخراج الآلاف من مناصريه من مراكز الاعتقال. وسيتيح الفراغ الناتج عن الانسحاب الأمريكي والغزو التركي مجالاً أكبر أمام هذه الجهود، بينما يضاعف المشكلة الأصلية المتمثلة في عدم رغبة الدول في التعامل مع مواطنيها الذين انضموا إلى تنظيم «داعش» وبقوا في سوريا. ومن أجل ألا يتذكر العالم على أن إدارة ترامب هي التي سمحت بعودة تنظيم «الدولة الإسلامية» إلى الظهور وربما شنه هجمات جماعية في أوروبا أو في أي دولة أخرى، على الرئيس الأمريكي وحكومته اتخاذ إجراءات عاجلة لإنقاذ وإحياء العلاقة التي لا تزال قائمة مع «قوات سوريا الديمقراطية» – شريك واشنطن في محاربة التنظيم منذ فترة طويلة.
في خطاب وجهه في نيسان/أبريل 2007، أشاد أبو عمر البغدادي، زعيم تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق»، سلف تنظيم «داعش»، على حذق تنظيمه في “البقاء” حتى بعد معاناته من نكسات – ما شكّل مصدر الشعار الشهير لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» “باقية”. وفي رأيه، سمحت هذه السمة للتنظيم بترسيخ وطأة قدمه في مجتمع معين، واستعادة قوته، والنهوض مراراً وتكراراً للرد على أعدائه. وبالفعل، في حين أدّت “الصحوة” القبائلية السنّية اللاحقة وزيادة عدد القوات الأمريكية إلى مقتله وهزيمة التنظيم التكتيكية في العراق، فقد فهمت واشنطن وحلفاؤها في النهاية أن مثل هذه الانتصارات قد تكون مضللة. فعندما غادرت آخر القوات الأمريكية العراق في كانون الأول/ديسمبر 2011، لم يتصوّر الكثيرون أنها ستضطر إلى العودة إلى تلك البلاد بعد أقل من 3 سنوات، عند انبثاق التنظيم مجددَاً تحت اسم «الدولة الإسلامية» واحتلاله مناطق واسعة من العراق وسوريا. ورغم أن الخسائر العسكرية والإقليمية التي تكبّدتها الجماعة مؤخراً هي أوسع نطاقاً بكثير من تلك التي لحقت بها خلال العقد الماضي، إلا أن التجربتين متشابهتان نوعاً ما بالنسبة لأعضائها. وكان التنظيم قد وضع خطة للصمود رغم الخسائر في ذلك الوقت، ولديه الآن خطة أيضاً، وهي: أن يكون صبوراً ونبيهاً ويختار الفرص المناسبة لإعادة تأكيد نفسه.
ولربما تتجسد هذه الذهنية بأفضل صورة في خطاب أدلى به المتحدث الراحل باسم تنظيم «الدولة الإسلامية» أبو محمد العدناني الذي كان يعدّ مناصري التنظيم للصمود في وجه هزيمة تكتيكية أخرى في أيار/مايو 2016 على أقرب تقدير – أي قبل ما يقرب من ثلاث سنوات من فقدان تنظيم «الدولة الإسلامية» آخر سيطرته على الأراضي في سوريا. وقد قال “النصر هو هزيمة الخصم”، ثم سأل المستمعين، “هل هُزِمنا عندما فقدنا المدن في العراق وكنا في الصحراء دون أي مدينة أو أرض؟ وهل سنُهزَم [إذا فقدنا] الموصل أو سرت أم الرقة؟ بالتأكيد لا! الهزيمة الحقيقية هي فقدان قوة الإرادة والرغبة في القتال”. وعلى الرغم من الفوارق المحلية والجيوسياسية بين الحالتين، لا يبدو أن إدارة ترامب ترى الديناميكيات الحالية في سوريا على حقيقتها: تكرار واضح لما حدث بين عامي 2011 و 2014.
نشاط تنظيم «الدولة الإسلامية» في سوريا منذ سقوط الباغوز
قبل فترة طويلة من خسارة تنظيم «داعش» للأراضي الأخيرة التي كانت تحت سيطرته في الباغوز، سوريا، اتخذ التنظيم تدابير فعالة لتعزيز هيكليته التنظيمية وتمكين نفسه كي يصمد كجماعة سرية إرهابية ومتمردة. وبخلاف ما حصل في الماضي عندما كان سيدير عملياته كمجموعة من “الولايات” داخل بلد معين، فقد سهّل التنظيم عملية صنع القرار وعملياته من خلال دمج كافة “ولاياته” السورية في كيان واحد يعرف باسم “ولاية الشام”.
ومن ناحية أخرى، شن التنظيم مجموعة من الهجمات المتمردة في مختلف الأراضي الخاضعة إما لسيطرة «قوات سوريا الديمقراطية» أو نظام الأسد أو شبكة وكلاء إيران. ومن آذار/مارس إلى منتصف تشرين الأول/أكتوبر، يدّعي أنه نفذ مثل هذه الهجمات في عدة محافظات: 321 في دير الزور، 100 في الحسكة، 98 في الرقة، 32 في حمص، 9 في حلب، 8 في درعا، و 3 في دمشق .
وتمشياً مع هذه العمليات، كانت الطليعة الأساسية من النساء الداعمات لتنظيم «الدولة الإسلامية» تحافظ على نشاط التنظيم داخل المخيمات التي تأوي الأسر التي غادرت الباغوز. وتتركز أبرز هؤلاء النساء الداعمات في الهول، وهو مخيم شمال شرق سوريا يسكنه 68000 نسمة. وهناك، يتمّ فصل الأجانب عن العراقيين والسوريين، وضِمِن هذا الملحق الأجنبي هناك قسم يحمل اسم “جبل الباغوز” حيث سعى أتباع التنظيم المؤمنون جداً بقضيته إلى الحفاظ على تطلعاته بالسيطرة على الأراضي والاستمرار بطرق حكمه الوحشية. وكما هو الحال مع الوحدات السابقة لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» مثل «لواء الخنساء»، تعمل هؤلاء النساء في المقام الأول كعضوات في دوريات الحسبة (أي الشرطة الأخلاقية). كما يديرون محكمة سرية من داخل خيامهم. وأدى هذا الاقتصاص غير القانوني إلى قتل العديد من النساء والأطفال خلال نصف العام الماضي. وفي الوقت نفسه، يقومون بتعليم الأطفال على أمل إنتاج جهاديين في المستقبل.
وما يجعل الوضع في الهول والمخيمات السورية الأخرى أكثر إلحاحاً هو واقع أن الزعيم الحالي لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» أبو بكر البغدادي قد حثّ مقاتليه في منتصف أيلول/سبتمبر على تهريب مناصريه متى كان ذلك ممكناً – وهو سيناريو أصبح أكثر احتمالاً في أعقاب غزو تركيا الأخير عبر الحدود. ومن أجل الدفاع عن مقاتليها وعائلاتها في وجه هذه العملية، أعادت الجماعات الكردية التي تقود «قوات سوريا الديمقراطية» توزيع بعض الموارد التي كانت تخصص عادةً لحماية المخيمات. وفي 13 تشرين الأول/أكتوبر، أي بعد أيام قليلة من بدء التوغل [التركي]، غادر أكثر من 700 امرأة وطفل أجانب مخيم “عين عيسى” ما أن تمّ سحب الحراس منه؛ وأفادت بعض التقارير عن انضمام ثلاث من أولئك النساء، اللواتي أصلهن من فرنسا، من جديد إلى صفوف العملاء الناشطين لـ تنظيم «الدولة الإسلامية». ومن المرجح أن يستمر التنظيم في اختبار أمن مرافق الاحتجاز، ليس فقط في مخيمات النساء، ولكن في السجون التي تضم أعضاء من الذكور أيضاً.
ويهدّد سحب الجنود الأمريكيين بدعم سردية تنظيم «الدولة الإسلامية» التي تسيّر هذه الاتجاهات، مما يعزّز قناعة مناصري الجماعة بأن ما يحدث هو “إرادة إلهية”. وحين كان التنظيم يخسر الباغوز في آذار/مارس، أعلن المتحدث باسمه أبو الحسن المهاجر أنه “بمشيئة الله، لا يزال أبناء الخلافة يثبتون أنهم الصخرة الصلبة والراسخة التي ستكسر تحالف الكفار … سوف يتقهقرون … بخزي وعار”. وقال ذلك في معرض شرحه بأن الخسارة كانت مجرد اختبار من الله للمساعدة على تطهير صفوف التنظيم: “النصر يأتي بالصبر، والراحة تأتي بعد المعاناة … وبالصبر يكون تحقيق الوعود”. إن قرار البيت الأبيض بالانسحاب [من شمال سوريا] لن يعزز هذا التصميم فحسب، بل يساعد أيضاً مجندي تنظيم «الدولة الإسلامية»، الذين يمكنهم الآن الإشارة إلى التطورات الأخيرة على أنها “دليل” على أن الله من ورائهم.
تجنب أسوأ النتائج
من الصعب التنبؤ بمدى وسرعة عودة تنظيم «الدولة الإسلامية» بالنظر إلى الديناميات السريعة التغير على الأرض في شرق سوريا. ومع ذلك، فإن المعضلة الرئيسية واضحة أساساً: في ظل مغادرة القوات الأمريكية لمعظم مواقعها، ومع استمرار «قوات سوريا الديمقراطية» في انهماكها بالتوغل التركي، فالسؤال الذي يطرح نفسه هو: من سيواجه التمرد الناشط للغاية ويعيد تصميم الحملة التي كان تنظيم «الدولة الإسلامية» يشنّها منذ أشهر؟ لو كانت تركيا مستعدة للاضطلاع بهذا الدور، لكانت الولايات المتحدة قد ساعدتها على تحقيق ذلك قبل خمس سنوات – لكن بدلاً من ذلك، قررت واشنطن إقامة شراكة مع «قوات سوريا الديمقراطية» ذات القيادة الكردية وهو أمر تعتبره أنقرة مرفوضاً. وقد أطلق التوغل التركي الآن أحداثاً متعاقبة تساعد تنظيم «الدولة الإسلامية»، مما يشير أيضاً إلى أن أنقرة ليست جادة عندما تتعهد بمواجهة التنظيم.
إذاً ما الدور الذي يمكن أن تلعبه الولايات المتحدة الآن بعد انسحابها؟ من جهة، يجب أن تحاول إنقاذ ما في وسعها من الحملات البرية والجوية التي شنتها ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» عبر العراق والأردن. ويتمثل مبعث قلق أكبر في الموجودين في السجون والمخيمات داخل سوريا، لأنها تضم العديد من الغربيين. يتعيّن على الحكومة الأمريكية بذل المزيد من الجهود لتحديد من فروا من مخيم “عين عيسى”، مع التأكد في الوقت نفسه من عدم معاناة المنشآت الأخرى من أعطال أمنية مشابهة ولا تشهد عمليات فرار جماعية مماثلة.
وتتطلب المهمة الأخيرة حلاً دولياً، والولايات المتحدة وحدها هي القادرة على توفير القيادة اللازمة لإقناع الدول الأوروبية والعربية بضرورة إعادة مواطنيها وعليها أن تعمد إما إلى مقاضاتهم أو إعادة تأهيلهم. ومن شأن هذا الجهد الجماعي أن يقلل من الموارد اللازمة لمواصلة إدارة السجون والمخيمات، وتخفيف الضغط على من يحرسها، ويحدّ من احتمال عودة العناصر الأكثر تطرفاً في تنظيم «الدولة الإسلامية» من أجل تجديد صفوف الجماعة. وعندها فقط يمكن لإدارة ترامب أن تتراجع عن خطأها القسري بسحب قواتها بطريقة فوضوية بعد أشهر فقط من تحقيق نصر عسكري تاريخي ضد تنظيم «الدولة الإسلامية».